اختلاف قراءات الشباب العراقي بين مرحلة وأخرى لماذا الفلسفة الآن

ريبورتاج 2021/12/28
...

  صفاء ذياب
مع كل مرحلة ثقافية جديدة، تختلف توجهات القراءة وموجهاتها حسب محددات كثيرة، يمكن البدء بالسياسات الثقافية التي تديرها الحكومة أولا، والخطابات التي تعنى بها دور النشر ثانياً، وثقافة المجتمع والبيئة التي يعيش فيها القرّاء ثالثاً. فضلا عن وجود محددات أخرى كثيرة، منها المد الديني مع كل مرحلة، والانفتاح المعرفي والفكري الذي تعيشه المجتمعات المجاورة، إن كانت عربية أم غربية، وهكذا حتى يمكننا فهم هذه الموجهات التي تدعو لقراءات ما دون أخرى في هذه الفترة، أو موجهات مختلفة في مرحلة أخرى.
ولا يخفى علينا ما حدث في ستينيات القرن الماضي من موجة الفلسفة الوجودية وكتبها التي انتشرت حينها، في حين كانت هناك موجهات تبعت ذلك وصولاً إلى الاهتمام بالكتب الدينية بعد العام 2003، والالتفات إلى الرواية خلال السنوات الماضية، وصولاً إلى اهتمام القراء الشباب بالفلسفة تحديداً، فبدأت إعادة قراءة كيركجارد ونيتشه وفوكو وسارتر وكامو وسلسلة طويلة من الفلاسفة، فما الأسباب التي تقف وراء هذا الاهتمام؟.
 
التحرّر من القيود
يظن أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية الدكتور علي المرهج أن سبب التوجه نحو الفلسفة، لأنها تساعد الشباب على التحرر من قيود التربية الشمولية والنزعة الفردية السائدة في حياتنا السياسية والاجتماعية، وبسبب انفتاح العراق اليوم على الفضاء العام والتواصلي، اذ ساعدت الثورة المعلوماتية على تسهيل نقل الفكر والتأثر برؤى معاصرة تكسر قيود السائد والموروث من تراثنا الذي لم نرث منه نواته التنويرية في الفلسفة الإسلامية بقدر ما تأثرنا بكل ما هو ثابت وراكد يكلس العقل ولا يُعمل الذهن في الرؤى الفلسفية التي تساعد الإنسان على التحرر والانفتاح على الآخر المختلف.
ويضيف المرهج: ما أحدثته الثورة المعلوماتية وانفتاح العراق على العالم بعد 2003 وبرغم تمكّن الإسلاميين الراديكاليين من الحكم، لكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على حرية انتقال الفكر والفلسفة والتأثر بهما، نيتشه وسارتر وكامو مروراً بفوكو وغيرهم من فلاسفة ما بعد الحداثة، أثروا في تغيير نمط الفلسفة ببعدها المثالي والتأملي التقليدي ليكسروا سياجها وينشغلوا بالإنسان وعلاقته بالواقع وبالهامش على حساب المركز وبالفرد على حساب سطوة الجماعة من أجل تحرير الإنسان من حالة العجز الذاتي كما قال إيمانويل كانت.
 
خلاص فردي
ويرى الباحث في الفلسفة صلاح محسن أن هناك أسباباً عديدة لهذا الإقبال المتزايد والمفرح على الكتاب الفلسفي والفكري، ففي عصر الايديولوجيات والسرديات الكبرى كانت الفلسفة سلاحاً نظرياً ماضياً وظهيراً للجدال السياسي والخطاب الثوري، وحركة الترجمة لم تكن بريئة تماماً آنذاك أيام الحرب الباردة بين الماركسية والمعسكر الغربي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفلسفات الخلاص الجماعي وفشل المشروع القومي العربي في ما يعرف بنكسة حزيران، اذ انتعش الخطاب الديني «الاسلام هو الحل»، بل إن الشعراوي سجد شكراً لله محتفلاً على طريقته الخاصة، وفشل هذا الخطاب بدوره ولم يشكل حلاً، بل أصبح هو المشكلة.
مبيناً: هناك عودة للفلسفة، لكن هذه المرة بشكل حر من دون تبني تيار فلسفي بعينه، تمثل بالفضول والعطش المعرفي لدى الشباب، وتأكيداً على أن الخطاب الديني الجاهز سلفاً عن الأسئلة الحارقة والمصيرية الكبرى لم يكن مقنعاً وكافياً، بظني أن الثقافة نفسها من أدب وفن وموسيقى وفلسفة وبكل تمظهراتها تمتلك أعرافاً رسمية وممارسات طقسية وداخلاً روحياً وهوية مشتركة ومهمة اجتماعية، وإن كانت أقل تصلباً وممانعة قياساً بالايديولوجيا، بمعنى أن هناك أشبه بالبحث عن أفق روحي آخر بديل عن المقدس طالما أن «التساؤل هو تقوى التفكير» بحسب هيدغر، وفلسفات العيش كلها هي شكل من أشكال التدين العلماني، طالما تعد بالسعادة وبتحمل الآلام وتعطي وصفة للخلاص الفردي، كل بطريقتها الخاصة.
 
مناعة معرفية
وبحسب القارئ ياسر عامر، فقد بدأ توجه الشباب لقراءة كتب الفلسفة والنظريات الفلسفية بعد أن بدأ التشابك المعرفي في مواقع التواصل الاجتماعي وخلطت المفاهيم والفلسفات بنكهة غرائبية، نحن كشباب تلقينا جرعة كتب أكبر من مناعتنا المعرفية، لذلك بدت علينا تخبطات في القراءة وعسر في هضم المعرفة، وهذا التوجه بدأ مع حركة رفض للواقع الاجتماعي والسياسي وقد يكون من الغريب أن الرفض يفضي لحركة قراءة وتوجهات فكرية جديدة، (نيتشه) مثلاً كان بطل هذه المرحلة وأكثر اسم يتداوله الشباب، لكن بدون فحص وفهم عميق لنيتشه وفلسفته الصادمة، وأيضاً (كامو) كانت له حصة كبيرة من الشهرة في أوساطنا، وكامو قد يكون تواجده بقوة مقنعا أكثر من نيتشه، لأن فلسفة كامو تناسب روح مرحلتنا السياسية والاجتماعية، فهناك في أوساط الشباب شعور مر باللاجدوى ويحيلون كل شيء إلى عدم.
ويؤكد عامر: في العراق هناك مشكلة أزلية جعلته نافذة مباحة لأي تيارات جديدة أو مستعادة، هي غياب المرجعيات الثقافية وغياب المثقفين الكبار الذين يمثلون لأي حركة شبابية عصا يتلمسون بها الخطوة القادمة، وهذا الضياع والتشتت الثقافي فسح المجال لما نراه من التخبط وعدم التماسك، وقد لوّح نيتشه عن الحالة الذهنية التي تحتاجها الفلسفة والأرضية المناسبة وانه يجب أن نقرأ الفلسفة قرعاً بالمطرقة وهو ما لا يتوافق مع حالتنا الذهنية هذه.
 
ظمأ الأسئلة
وبحسب الدكتور محمد حاجم، فإن البحث عن الموجهات القرائية لجيلنا الشبابي يحيل بالضرورة إلى معرفة الأفق الذي نشأنا فيه، بوصفنا جيلا قدِمَ نحو الحياة بمخاضات عسيرة جداً، ليس أولها حروب متواصلة، ومرجعيات كابتة للتفكير والتساؤل، نشأنا في أمة لا يحق لك فيها التساؤل الذي يعدُّ في بعض الأحيان مميتاً، لذلك كان ظمأ الأجوبة يلازمنا، بينما كانت تخنقنا الأسئلة نحو المصير، وأبعاد الوجود، وتعبيرات الحرية والثقافة، والسلطة، والدين، كلها كانت دوافع كافية لتوجه هائل نحو القراءة عموماً، ونحو اقتحام بوابات المعرفة، ولا بأس أن نقول: إن الثقافة الأدبية، والسردية بالخصوص (الرواية) شدَّتنا لعالم آخر، عالم الأجوبة اللامتناهي، ولتكون فيصلاً نهائياً نحو دخول الشباب إلى عالم الفلسفة بكل ما فيه من تساؤلات، لنكون عند مفصلية مهمة وهي انتقال جيل كامل من عاطفة الشعر السائدة في المجتمع، إلى منطقية التفكير، لكن ذلك لم يكن ليخلو من عقبات وئيدة، تمثلت بالثقافة القرائية أحادية الجانب، بمعنى أن المقولات الفلسفية باتت تسير الحياة نحو الجمود عند بعض الشباب في حين كان لها أن تؤدي دور التأمل الأقصى في التفكير العقلاني.
 
هندسة العقل
الباحث سامر عبد الكريم ناصر يقول: بصفتي قارئاً لكتب الفلسفة و(عاشقاً) للفكر الفلسفي منذ أيام الإعدادية والجامعة، كنت أعتقد أن رحلة القراءة في كتب الفلسفة هي رحلة سعادة وبحث عن أسرار ليست لها أجوبة إلا في الفلسفة، لكن ما يؤرقنا أكثر هو أننا نعود للفلسفات الشرقية والإسلامية ثم اليونانية والرومانية للبحث عن أصول وتعريفات تلك الأشياء الكبرى في الفلسفة، لعلنا نجد ضالتنا اعترافاً منا بطفولية أدواتنا البحثية مهما تطورت الماكنة الفكرية. لكن للأسف لا نجد سوى المزيد من القلق والضياع والأحلام المشوشة ليلاً، وهذا لا يعني أننا نتبع الشك في مناهج تزيد قسوة الحياة علينا، ولكن أعتقد أننا بحاجة لهذا القلق، القلق الوجودي ترياق المعنى في زمن اللامعنى.
و هنا تحولت رحلة البحث السعيدة إلى رحلة شقاء لأن التحولات الجذرية في المفاهيم البشرية اليوم تمر بمرحلة أشبه بعكس هندسة العقل، فيصبح القارئ أقرب للكاتب وكلماته من الكتاب الذي ألفه المؤلف نفسه أو ربما أفكاره الأصلية، مرحلة تماهٍ مع الفلسفات أكثر من كونها مرحلة إنتاج، وهي مرحلة تجريد مزعجة ومخيفة، من هذا الجانب هي أيضاً مرحلة الإدمان الممتزجة بالفضول وحب الاستطلاع والاعتراف بالهزيمة أمام الجهل الكبير تحت ظلال قلق لا يهدأ حتى موت الإنسان، لأن الاكتفاء من التفكير الفلسفي لهو أمر مستبعد، وهذه ربما هي أزمة الاستشكال الأساسية في ذواتنا.
من جانب آخر التفكير مع الفلسفة برأيي هو حافز يقود القارئ نحو مستقبل التفكير النقدي أو ربما هو تحرك نشط وساكن بعد المنطق اللاصوري، في النهاية أقول قد نهرب إلى المناطق العلومية والعلموية كالفيزياء الفلكية والنظرية وفلسفتها التفاؤلية وندرس هوكنك وروفيلي وساغان ونحلق على أجنحة ايلون ماسك نحو الفضاء، لكننا سنهرب من الكوكب وليس من أنفسنا الغارقة في بحار التفكير.
 
محور السؤال
أما القارئ غسان عادل، فيرى أنه يمكن عدّ الفلسفة اليوم فعلاً احتجاجياً يلازم الإنسان ولا ينفك عنه.
وهنا يشير إلى أنه بالفلسفة يمكننا أن نحتج على كل فكر من خلال اخضاعه للنقد، وأن نحتج على كل فعل غير عقلاني باعتبار أن الفلسفة ممارسة عقلية، فالفكر الفلسفي المعاصر تنازل عن الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تخص الإجابة عن أصل الوجود أو إرجاع الكون إلى أصل مادي أو روحي بوصفها قضايا بالأساس هي تحصيل حاصل، وركز على الإجابة عن الاشياء التي تخص الإنسان مثل الحرية والقلق والموت بوصفها مسائل تهتم بالإنسان بصورة مباشرة، فقد أصبح محور هذا الفكر بعدما كان الكون هو محور السؤال الفلسفي، فالفلسفة لدى الشباب العراقي اليوم هي تزامن واحتكام وتفاعل مع كل
فعل.