باكستان تشهد موجة عنف ضد {الكفر}

قضايا عربية ودولية 2022/01/16
...

 ترجمة: أنيس الصفار                                        
عرف عن "بريانثا كومارا"، وهو سريلانكي الأصل عمل وقتا طويلا في إدارة مصنع لإنتاج الملابس الرياضية في مدينة "سيالكوت" الباكستانية الصناعية، أنه "إداري صارم"، كما تقول تقارير الشرطة. كان عماله يكثرون الشكوى لأنه يرغمهم على البقاء بعد أوقات الدوام لأجل تلبية طلبيات التصدير. من ناحية ثانية كان هذا الرجل أجنبياً ومسيحياً في حين أن العاملين لديه في معظمهم مسلمون ومن الرجال.
 
 
في صباح يوم 3 كانون الأول الماضي تفجرت مشاعر النقمة في مصنع "راجكو" واستحالت إلى أعمال شغب وعنف حين سرت في المصنع شائعة تقول إن كومارا يتهيأ لتجديد صبغ الجدران استعداداً لاستقبال وفد زائر، ولهذا السبب أزيلت بعض الملصقات الدينية التي تمتدح النبي محمد (ص) وألقيت في براميل القمامة، وبفعله هذا ارتكب فعلاً 
من أفعال الكفر.
ما إن انتشرت الشائعات بخصوص جريرة كومارا حتى انطلق عدة مئات من العمال يطاردونه إلى سطح المصنع حيث أمسكوا به ثم سحلوه إلى الباحة وإنهالوا عليه ضرباً وركلاً ورجماً بالحجارة إلى أن لفظ أنفاسه، بعد ذلك أضرموا النار بجثته.
يقول المراقبون في باكستان إن هذه الحادثة البشعة سلطت الأضواء بقوة على مسحة خطيرة من التطرف آخذة بالانتشار بين أوساط المسلمين العاديين غير المتشددين من أصحاب الدخل المنخفض، ويؤكد البعض أن هذا التوجه بات يشكل خطراً على استقرار باكستان أشد وأعظم من خطر الجماعات المسلحة الموالية لطالبان التي لا تفتأ تتحدى قوات الأمن التابعة للدولة منذ سنين، ولكن على خلاف أجندة المتشددين تحظى قضية ردع الكفر والكافرين بدعم واسع في هذه الأمة ذات الأغلبية المسلمة البالغ تعداد سكانها 220 مليوناً.
في خضم الهجوم الفوضوي في سيالكوت سجلت كاميرات المراقبة وقنوات الأخبار التلفزيونية مقاطع فيديو لعمال يلتقطون صور السيلفي ويهزجون بشعارات دينية، وتحدث عامل شاب وهو مفعم بتبجح من امتلك الحق كاملاً مبيناً لعدد من مراسلي القنوات التلفزيونية اللذين وصلوا إلى الموقع قبل القاء القبض عليه : "أبلغنا رئيس العمال بما فعله كومارا، لكنه فر هارباً فأسرعنا وراءه وأمسكنا به ثم أرسلناه إلى جهنم." كان هناك آخرون يتجمعون ثم هتف عدد منهم: "أنا هنا في خدمة النبي." وهي جملة اتخذتها إحدى الحركات الإسلامية شعاراً .
هزت حادثة القتل البلد واستقطبت تنديداً سريعاً من الزعماء السياسيين والمدنيين والدينيين من مختلف الفئات والطوائف. رئيس الوزراء عمران خان شجب ما أسماه "الهجمة الغوغائية المريعة" التي وصمت باكستان بيوم العار.
أقسم عمران خان أن الجناة سيلقون أشد العقاب وفق القانون كما منح أحد صغار مدراء المصنع وسام الشجاعة لمحاولته ردع الغوغاء وإيقافهم. أرسلت الحكومة رفات كومارا إلى بلدته كولومبو بمراسيم تشريف كاملة وعبر مسؤولون من سريلانكا عن ثقتهم بأن السلطات في باكستان سوف تنتصف له وتحقق العدالة.
أما شرطة سيالكوت، التي كانت بطيئة في الوصول إلى المصنع وتعرضت للانتقادات بسبب فشلها في إيقاف المهاجمين، فقد فتحت تحقيقاً ساعدها فيه عدد من أجهزة الشرطة الأخرى مع الاستعانة بتسجيلات الكاميرات الأمنية لتشخيص المهاجمين. بذا ألقي القبض على أكثر من 100 مشتبه به جميعهم من الشبان العاملين في مصنع "راجكو" بالإضافة إلى عدد آخر أقل لعرضهم على محاكم مكافحة الإرهاب.
كتب زاهد حسين عموداً في صحيفة دون (الفجر) قال فيه: "لقد كان هياج المهاجمين مخيفاً، ربما سيعاقب البعض منهم، ولكن إفلات مثيري العنف المتطرف بدوافع دينية من العقاب هو الذي سيبقى ينتج فواجع مثل حادثة سيالكوت." ثم تابع زاهد مبيناً أن ما أسماه "تحويل العقيدة الدينية إلى سلاح" هو السبب الحقيقي في انتشار مثل هذه الأعمال الوحشية في المجتمع، ثم يخلص إلى أن "سياسة الاسترضاء" التي تنتهجها الدولة هي التي جعلت الأمور تنحدر نحو الأسوأ.
في العقد الماضي انجرف ملايين الباكستانيين مع حمى "التصدي للكفر" التي انطلقت في أعقاب اغتيال سياسي ليبرالي اسمه "سلمان تأثير" على يد حارسه الشخصي بسبب استنكاره العقوبة القاسية التي أوقعها القانون على امرأة مسيحية ريفية اتهمت 
بالكفر والتجديف.
بعد ذلك أسست الجماعة المناهضة للكفر طائفة دينية اتخذت من الحارس الشخصي المذكور، واسمه "ممتاز قادري" محوراً لها. وبعد إعدام قادري شنقاً في 2016 عقب إدانته بجريمة القتل خلعت عليه الجماعة لقب "شهيد الإسلام" وأقامت له ضريحاً بالقرب من العاصمة إسلام آباد ثم شكلت حزباً سياساً جديداً أسمته "حركة لبيك يا باكستان". من حينها أخذ زعماء هذا الحزب يشنون حملات احتجاج استمرت بالتصاعد حجماً وعدوانية إلى أن شملت مختلف أنحاء البلد وبسرعة اكتسبت ثقلاً انتخابياً.
في العام 2017 تصدى قادة هذا الحزب لتعديل في قوانين الانتخابات يخفف شرطاً يلزم المرشح بالإعلان عن انتمائه الديني. أغلق المحتجون أحد الطرق السريعة المهمة لمدة أسابيع إلى أن تراجعت حكومة "نواز شريف" وعقدت سلماً مع زعماء حزب لبيك. في العام 2019 شنت الجماعة موجة احتجاجات جديدة أعقبت إطلاق سراح "آسيا بيبي"، وهي المرأة التي انتصر لها "سلمان تأثير"، بعد مساجلات حول حكم الإعدام استمرت 10 سنوات وفي النهاية سمح لها بالفرار إلى الغرب.
في العام 2020 أعاد أتباع حزب لبيك احتلال الطرق السريعة والجسور محتجين على رسوم كاريكاتيرية معادية للإسلام نشرت في فرنسا وطالبوا بطرد السفير الفرنسي من باكستان، وتواصلت الفوضى إلى الشهر الماضي عندما وافقت حكومة رئيس الوزراء عمران خان أخيراً على إسقاط "سعد رضوي" زعيم حزب لبيك من قائمة الأشخاص المراقبين لعلاقتهم بالإرهاب ثم أطلقت سراحه من السجن.
يؤكد قادة حزب لبيك أنهم لا يتهاونون مع العنف، لكنهم مع هذا يكررون في خطبهم ومواعظهم أن الكفار جزاؤهم الموت، وحملتهم تلك كان فيها تحريض على القتل والحرق. في حرم إحدى الكليات في شمال غرب باكستان اتهم طالب علماني بالكفر فضرب على يد زملائه في الصف حتى مات، كان ذلك في العام 2017. وقبل هجوم سيالكوت بأيام قليلة أحرق الغوغاء مركزاً للشرطة في الشمال الغربي بعد أن رفض المسؤولون فيه تسليمهم سجيناً متهماً بالكفر.
في مقابلة معه مؤخراً بإحدى المدارس الإسلامية في مدينة راولبندي أكد "سيد عناية الحق شاه"، وهو مسؤول كبير في حزب لبيك أن جماعته لا علاقة لها بهجوم الغوغاء في سيالكوت، الذي عزاه إلى غضبة طبيعية من مسلمين اعتقدوا أن النبي محمد (ص) قد أسيء إليه.
قال شاه: "لقد كنا مسالمين دائماً ولم ندعُ إلى العنف أبداً. إن أكبر جريمة في العالم من وجهة نظر المسلم هي الإساءة إلى النبي (ص) أما اتخاذ الإجراء المناسب فهو من شأن الدولة، ولكن حين يرى الناس النظام القضائي يتوانى في مثل هذه الحالات، ويرون أن الحكومة تنصاع لضغوط القوى الليبرالية الغربية في ما يتعلق بتغيير القوانين لا تعود بهم طاقة لتحمل الأمر، وفي بعض الأحيان يتولون تنفيذ
القانون بأيديهم."
قانون مكافحة الكفر في باكستان شديد القسوة وهو يفرض عقوبة الإعدام عند ثبوت التهمة، وقد يقضي أشخاص سنوات في السجن لمجرد اتهامهم بالإساءة للإسلام، كالتفوه بنكتة أو النيل من القرآن. كذلك يساء استغلال القانون لاستهداف المسيحيين وغيرهم من الأقليات، لاسيما من الطائفة الأحمدية، في حالات الخصومة الشخصية أو الطائفية.
يقول كبير مستشاري الحكومة الباكستانية للشؤون الدينية "علامة حافظ طاهر أشرفي": "لقد شجع الطيف الواسع من الجماعات التي شجبت هجوم سيالكوت، ومن بينها حزب لبيك، المسؤولين وأعطاهم شعوراً بالتفاؤل." يضيف أشرفي أنه ومن معه دائبون على التصدي للتطرف المناهض للكفر عبر الحوار بيد أن الغضب الأهوج عميق الجذور في باكستان ومن الصعب التصدي له.
يقول أشرفي: "هذا ليس نتاج يوم واحد بل هو مرض عضال كان يستفحل منذ 40 عاماً، هنالك جهل وبطالة واسعين وثمة من يستغل ذلك." بيد أن على الغرب عدم الضغط بشدة على باكستان بخصوص مسألة الكفر وإلا ارتد الأمر بنتائج عكسية، كما يحذر أشرفي الذي يخلص إلى القول: "سيستغرق الأمر بعض الوقت ولكننا قادرون على ترتيب بيتنا."
مر أسبوع على هجوم سيالكوت وعادت الشوارع تضج بأصوات الدراجات النارية وشاحنات النقل وخف الحديث عن الهجوم. مصنع "راجكو" لا يزال مغلقاً تحت الحراسة، ولكن العشرات من مصانع الملابس والمصنوعات الصغيرة الأخرى، التي تشكل الدعامة الأساسية لاقتصاد باكستان القائم على التصدير، عادت إلى العمل بصورة طبيعية.
أناس من مختلف مشارب الحياة عبروا عن ارتياعهم وشجبهم للهجوم على كومارا، ذلك الرجل الخمسيني الذي بقي يدير المصنع لأكثر من عقد من الزمن. تضاربت الروايات حول أسباب اندلاع العنف بين العمال ولا يستطيع احد أن يجزم بأن المدير الأجنبي كان مدركاً لحساسية الأمر وهو ينزع اللافتات الإسلامية من على الجدران.
يقول أرشد عارف، 60 عاماً، وهو عامل متقاعد: "إنه إثم كبير ان تقتل إنساناً وتحرقه بهذه القسوة." ويزداد الإثم سوءاً حين ترتكب الفعلة باسم الله مهما كانت الإساءة المزعومة التي أطلقت غضب العمال، على حد تعبير عارف. 
 
باميلا كونستابل/
عن صحيفة واشنطن بوست