النسويَّة في العراق.. هل ماتت سريرّياً؟

ثقافة 2022/01/17
...

 عبد الغفار العطوي 
لن أكون  متعسّفاً، في قول الحقيقة الصادمة للجميع بما يتعلق بنقطة مفصلية أثبتت حضورها في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية بشكل ملفت للنظر، وشغلت فئات مجتمعاتنا، أفراداً وتجمعات، في وقتنا الراهن ولكنها في الوقت عينه اعتبرت دخيلة علينا في هذا العصر، فبرمنا بها قلقاً، من حيث هي لم تظهر في أدبياتنا إلّا قريباً، وتم قبولها على مضض، حينما غزت العالم العربي الحداثة الاستعمارية التي جاءت مع الجيوش الغربية الغازية للمنطقة بداية القرن العشرين. 
 
وكشفت لنا بغتة عن قضية النصف المعطل في المجتمع الذي لم يرَ النور جيداً، وأعني به المرأة (عصر الحريم) في تعبير فاطمة المرنيسي ونوال السعداوي وغيرهما، النصف الذي مازال يرزح تحت مبررات الغياب اللغوي والثقافي والاجتماعي، والحركة التي نسبت في الثقافة الغربية الحديثة إليها النسوية، واختلاف فئات المجتمع حولها، فالذين طالما راهنوا على أن الدراسات التي تهتم بالنساء في العراق الآن، هي في غاية النضج والتقدم في ظل المؤسسات الحكومية، وغير الحكومية التي تراعي المرأة العراقية في شؤونها وحقوقها المدنية والحقوقية والثقافية والسياسية، أو أولئك الذين لم يراهنوا على تلك المؤسسات سواء، التي أنشأتها الدولة ضمن هيكليتها الإدارية تلبية لظروف العصر، أو تلك التي تبنتها الحقبة الاستعمارية، وقد فرضت قيماً وتقاليد حضارية غربية بدت أنها معزولة، وفارغة من محتواها المحلي، ثم انتهت تلك القيم والتقاليد إلى أن يتبناها الذين  وجدوا أن السير على منجزات الغرب يحقق للنصف المعطل  ذاك بعض رغباته في العيش الجيد من خلال تكافؤ الفرص بين الجنسين.
ولعل الذي قاد تلك الحركة أن تبرز في غضون عقود قليلة من السنوات هو الإيمان بضرورة أن تأخذ المرأة دورها الفاعل في  مؤسسات منظمة، بعيداً عن الشعور بالعجز والاحباط، في ظل انتفاء أية مؤسسات (مثل البيت والعشيرة والطائفة) بديلة  تمارس النساء من خلالها الحقوق والواجبات المناطة بها، وهذا يعني بصورة إجمالية، غياب أية حركة ظاهرة تعبر عن الهوية الواضحة للمرأة، فمنذ نشأة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، ووقوع المنطقة العربية في القرن العشرين في قبضة الاستعمار الغربي، وما ترتب عليه من بروز ما عرف بحركة الاصلاح والنهضة العربية كردة فعل على الاستدراك المتأخر بتخلف المنطقة العربية عن التقدم الحضاري في العالم الغربي، وسعيها للحاق بركب الغرب، ظهرت نظرة الانفتاح على العالم الآخر بكل مواصفاته وتقاليده ومعتقداته  وفلسفاته، أي الوقوع التلقائي السريع في بحر حضارته المتلاطم، والالتفات نحو المرأة في العراق كان ضمن هذا الوقوع الذي لم يفكر أحد بعواقبه، وبينما نشأت الدولة العراقية الحديثة بداية القرن العشرين وهي تحمل جرثومة التفكك والتمزق كباقي دول المنطقة العربية في كل جسدها الفتي، واثبتت التوقعات صدق المآل المروع الذي يشهده العراق الآن (اتفاقية سايكس بيكو) وبدت اللمسات القليلة التي حصلت عليها الدولة العراقية في الحقبة الملكية (1921 - 1958) التي رافقت نهضة التحديث، قد بددتها الحقبة الجمهورية (1959 - 2021) بأنماطها الثلاثة العسكرتارية والحزبية والديمقراطية الفوضوية، وبات العراق بلدا خرباً تعشش به كل أمراض ما قبل العصر الحديث، وهو أمر مؤسف حقاً يتحمله الشعب العراقي أولاً وفئاته ونخبه وتضامنياته ثانياً، وفي المقدمة النخبة السياسية الحاكمة بكل أنماطها عبر التاريخ المعاصر، البلد الذي يفتقد الهوية الموحدة التي تفضل بناء المصالح المشتركة على أية بناءات انفصالية في تشظي الهويات العرقية والقومية والدينية، فقد كانت الشخصية العراقية المعقدة والمضطربة، هي السبب الرئيس في الانحدار القيمي للمجتمع، وانهيار كل محاولاته في العيش الموحد، حيث لم يكن العراق موحداً، ولا المجتمع حريصاً على ذلك، والصراع الخفي بين أعراقه وطوائفه (عرب كورد قوميات أخرى) يتسع مع جرثومة التمزق التي زرعتها تقلبات العصر من مئة عام لم تنضج الشخصية
العراقية.
النقطة المفصلية في البنية العراقية التي تمثلها المرأة هي الأضعف في كل هذا الخراب الفادح، الذي يعانيه الجميع، فالتشكيلة الغرائبية للمجتمعات العراقية تتحملها المرأة  بنصيب أوفر، إذ أستغلت أسوأ استغلال، فالتركيبة المجتمعية العراقية القائمة على أوتاد القبيلة والطائفة والدولة القطرية الضعيفة أقحمتها في محاولات التحديث الشحيحة كعنصر يقوم عليه عبء التجريب التحديثي في الأفكار المطروحة عن  حقوق المرأة وحريتها، وضرورة تنشيط النصف المعطل في المجتمع العراقي في ما قبل منتصف القرن العشرين، على مجموعة من الرجال المتنورين، الذين تأثروا بنهضة الغرب من منظورها الاستعماري، وارتبطت تلك المحاولات بفكرة التأطير الإيديولوجي في نهضة المرأة، فكانت الفكرة في الأساس ميالة إلى أنها مبادرة حركة الاصلاح القوماني، تلقفها اليسار الراديكالي، وغذاها في فلسفة اليسار الماركسي الذي ربط تحرر المرأة بتحرر الطبقة الكادحة وصراعها ضد الرأسمالية، بما عرف بالنسوية الاشتراكية، لكن تفكك اليسار العراقي أدى إلى موت النسوية إكلينيكياً، لا سيما دخول الحركة الاستعمارية النسوية، بعد عام 2003 بما عرف بالنسوية الاستعمارية، ومحاولات الحركة الدينية متأثرة بهذا التقليد، فكانت هناك النسوية الإسلامية، وإرهاصة النسوية واخفاقها في أن تتبنى المرأة مرده إلى طبيعة المجتمع العراقي المفككة، التي تهيمن عليها الأبويات والعنف
الفحولي.