إعاقة الرجل.. الحوار الصاخب

ثقافة 2022/01/17
...

 د. نصيرجابر                      
 
تبدو سيرة وحياة عالم الفيزياء النظريّة الشهير ستيفن هوكينج (1942- 2018) الذي يعدّ من أهم العقول العلمية في العالم في العقود الأخيرة تبدو للوهلة الأولى بعيدة كلّ البعد عن عالم (النظرية النسوية) واشتغالاتها المعرفية وتنظيراتها الفكريّة، بل بعيدة عن عالم المرأة كلّه. ولكن تتبع خطوط هذه الحياة الشاقة المثمرة التي عاشها هذا العقل العلمي المجرّد يجرّنا إلى تساؤلات حقيقية حول معنى الإعاقة الجسدية وحدودها ومعنى التفرّد الانساني المُنتج، ومن ثمّ سنصل إلى بؤرة النسوية حيث الجسد (المرفوض) والجسد (المرغوب)، وكيف يمكن أن تُقرأ ظاهرة الإعاقة عندما ترافق شخصية لها مكانة علمية وأكاديمية مرموقة، وما يمكن أن ينتجُ بسبب تلك الإعاقة من صراعات اجتماعية تدور تحت ظل مناخات متعدّدة الرؤى وبيئات متباينة الأفكار، صراعات تدخل المرأة في أتونها الملتهب دائما. 
كان هوكينج نجما ساحراً تشرئبُ نحوه جميع الأبصار وتُعجبُ به النساء المثقفات خاصة، ولكنّه نجم عاطل، معاق على كرسي متحرك، لا يستطيع الكلام ولا الحركة، يلقي محاضراته التخصصية الدقيقة من خلال برنامج إلكتروني معقّد طوّر خصيصا له تتحول فيه كلماته المكتوبة إلى صوت اصطناعي لذا فهو أنموذج لرجل مختلف مائز، رجل بلا نوازع ذكورية ولا غرائز شهوانية لا يثير عند المعجبات به أي عاطفة حميمة أو أملا بتكوين أسرة بل يثير مكامن أخرى تحتاجها المرأة لا من باب التعاطف أو الشفقة بل من باب التكامل مع الذات والشعور أنها مع (الفكرة) المثالية لا مع (الجسد) الزائل، وذاك شعور سامٍ، مُترفّع، يجعل المرأة تحترم ذاتها الميّالة  نحو المثل العليا التي تحرص عليها منظومات التربية الأخلاقية في المجتمعات كلها.
لذا أولت النسويات موضوع الإعاقة عند المرأة أهمية كبيرة، فهناك كثير من الدراسات والمقالات والكتب ظهرت حوله ولعلّ من أهمها كتاب (أجساد مرفوضة) لسوزان وندل، وكتاب (ادّعاء الإعاقة) لسيمي لينتون، ومايزال الموضوع يشكّل أهمية كبيرة لما يحمله من دلالات تتشعّب لتتصل بأطراف كثيرة تؤسّس لبنية المجتمع والأفكار، فالإعاقة حدث مفصلي في حياة الإنسان وحياة المجتمع وهي مقياس لحركية العدالة الاجتماعية فيه، وأظن أن إعاقة الرجل لا تختلف كثيرا عن إعاقة المرأة لو نظرنا لها من خلال المعطى الرمزي للإعاقة على الرغم من وجهات النظر المتباينة لهذه القراءة نحو هذا الحدث، فالمرأة إعاقتها مضاعفة لأنها تكرّس ضعفها في وسط غير محايد أبدا، قد ينظرُ لها أصلا، وكأنّها كائن معاق  بطبيعته، تحتاج إلى حماية الرجل ووصايته لكي تنهض بأعباء الحياة، فكل امرأة هي مشروع إعاقة مؤجل، أما إعاقة الرجل فهي ذات دلالة رمزية أكثر من كونها مشكلة واقعية، إذ يظهر فيها الذكر وقد فقد جزءا من وجوده وكينونته؛ لذا تنظر له المرأة بطريقة مغايرة، فهو مثال منقوص ومجتزأ من عالم التكامل الذي فرضته الثقافة الذكورية المهيمنة يحتاج إلى المرأة ليستمر، وهذه المعادلة تدخل في صلب عمل النسوية التي تتبع بوصلة الموضوعية لتصل إلى هدفها في العدالة. 
إنّ الرجل المعاق قد يكون جذّابا للمرأة الواعية لا لتمارس عليه سطوتها مستغلة نقطة ضعفه بل هو جذّاب لأنّه يشكّل لها فرصة حقيقية لتصحيح مسار العدالة التي تؤمن بها طريقا وحيدا في الحياة حتى وإن كانت هذه الفرصة ستحرمها من مشاعر الأمومة مثلا، تلك المشاعر المندكّة فيها لأنّ المرأة تحركها هنا مشاعر المقموع الذي لا يريد أن يكون كقامعه أبدا. الإعاقة إذن عطب في بنية الفكر الانساني قبل أن تكون مجرد عطب في بنية الجسم لابدّ من مواجهتها دائما بوسائل التمكين الفكرية قبل المادية.