جداليات إيرانية بشأن «ستراتيجية التوجّه شرقاً»

قضايا عربية ودولية 2022/01/31
...

 جواد علي كسار
شهدت الأشهر الخمسة من حياة حكومة إبراهيم رئيسي، تداول مصطلحات مكثفة على مستوى السياسة الخارجية، أبرزها التركيز على دول الجوار، ومحورية آسيا، والتبني دولياً: "ستراتيجية التوجّه صوب الشرق" ضمن رؤية تَقدم فيها الاقتصاد على الإيديولوجيا، ولغة تحقيق المصالح المباشرة العجلى على ستراتيجيات العداء الموروث، ما أثار جدلا واسعاً داخل إيران، اقترن بمراجعات نقدية معمقة للسياسة الخارجية؛ بنية وإطاراً وأدوات، لاسيّما بعد تفعيل المعاهدة مع الصين، وزيارة رئيسي إلى موسكو.
الإشكال النظري هو أوّل ما يواجه "ستراتيجية التوجّه شرقاً"، فماذا يُقصد من ذلك على وجه التحديد؟ يُفترض أن وزير الخارجية هو الأقدر من غيره على بيان حمولة المصطلح وكشف المراد منه. وهذا ما فعله حسين عبد اللهيان في مناسبات عدّة، كان أبرزها لقاؤه مع قناة "الجزيرة"، عندما قال نصاً: "ترتكز السياسة الخارجية لحكومة إيران الجديدة، على أنموذج يستند إلى سياسة خارجية متوازنة، ودبلوماسية متجدّدة وذكية". ثمّ أوضح: "بشأن السياسة الخارجية المتوازنة أخذنا بنظر الاعتبار، العلاقة المتزامنة مع الشرق والغرب". ودرء شبهة الانحياز إلى الشرق على حساب الغرب، أضاف عبد اللهيان: "ما يرمينا به البعض من أنكم تسعون إلى العلاقة مع روسيا والصين فقط، ولا تريدون العلاقة مع الغرب، فهو محض اتهام وكلام خاطئ. نحن نريد سياسة خارجية متوازنة مع جميع أرجاء العالم، ومع الشرق والغرب معاً"، (النصوص عن موقع وزارة الخارجية، التي نشرت المقابلة كاملة بتأريخ 6 كانون الثاني 2022م).
أثارت نصوص الوزير هذه ردود فعل غاضبة في أوساط خطّ الحرس الثوري، عبّرت عنها وكالة "تسنيم" التابعة للحرس، وهي تنشر مقالاً نقدياً، بعنوان: "السيد عبد اللهيان؛ ليست هذه هي ستراتيجية: التوجّه شرقاً". للوهلة الأولى، كان يمكن تمرير المقال وتجاهله، بتصنيفه في خانة الشعارية والثورية الصبيانية، لكن طبيعة المنبر وهويته المحسوبة على الحرس الثوري، أضف إلى جرأة المقال ووضوحه نقدياً، والردّ في عنوانه على وزير الخارجية بالاسم مُباشرة، ومن دون مجاملة، وإعطائه وزناً مضافاً من خلال التوقيع عليه، من قِبل"القسم السياسي في وكالة تسنيم" بدلاً من نسبته إلى كاتبه وإلى شخص محدّد؛ كلّ هذه العناصر وغيرها، تدفع للتعامل الجاد مع المقال.
 
المحاكمة الإيديولوجية
الحقيقة من يقرأ مقال "تسنيم" يشعر أنه أقرب إلى المحاكمة الإيديولوجية منه إلى النقد، والاختلاف في وجهات النظر. فهو يذكر بدءاً أن نصوص الوزير تنطوي على إشكالات في "المحتوى" وفي "الجانب العملي" معاً، وأن وزير الخارجية عبد اللهيان يفتقر إلى الدقة في إدراك المعنى الكامل، لـ"ستراتيجية التوجّه شرقاً". والأخطر من ذلك يتهمه، بأنه قد استدرج إلى مزالق الخطوط التحريفية في الداخل، التي تخلط برأيهم وعن عمد، بين الشرق والغرب الجغرافي، وبين الحمولة الفكرية والإيديولوجية لأنظمة الشرق والغرب، وتستفيد من هذا الخلط في نقد التوجّهات الحالية لسياسة طهران، صوب الشرق.
غني عن القول أن من يقصده القسم السياسي في وكالة "تسنيم" بالخطوط التحريفية في الداخل، هم كلّ من يختلف مع هذه الرؤية الإيديولوجية ويتقاطع مع صرامتها، أعمّ من الإصلاحيين وغيرهم، حتى المعتدلين من الأصوليين أنفسهم، الذين تسميهم "تسنيم" معها تيار صحيفة "كيهان" بـ"المتغرّبين".
في النقاط النقدية التي أثارتها وكالة "تسنيم" لم يتورّع القسم السياسي، باتهام الوزير أنه وقع تحت طائلة الخشية من "التحريفيين" و"المتغرّبين" في الداخل، الذين اتهمتهم بالغرض، ووسمت نقدهم بالسفسطة، لتذكّر الوزير بأن المعنى الذي ذكره لستراتيجية التوجّه شرقاً، يمكن أن يعيد إيران إلى سياسة التوازن السلبي بين الشرق والغرب، التي كان ينادي بها البعض على عهد الشاه.
 
المناورة بالشرق
القاجاريون (1790 - 1925م) هم الحلقة التأسيسية الثانية في تأريخ الدولة الإيرانية الحديثة، من بعد الحلقة الأولى المتمثلة بالصفويين، وعلى عهدهم بدأت علاقة إيران تتوثّق مع الغرب. والحقيقة التي لا مراء فيها مدعومة بتأريخ إيران الحديث والمعاصر، أن هذا البلد ارتبط بالغرب في الثقافة والسياسة والاقتصاد والآداب والفنون، وفي الكثير من جوانب الحياة اليومية ومكوّنات المزاج الاجتماعي. فمنذ اللحظة الأولى لتأسيسيات هذه العلاقة، كان الغرب هو المحور وهو نقطة الاستقطاب في الحياة السياسية، معه في الغالب وضدّه في بعض الأحيان، ومن ثمّ لم تكن روسيا في عهودها الثلاثة؛ القيصرية والسوفياتية والبوتينية، إلا ورقة يُناور بها الحكم في طهران، لتحسين وضعه مع الغرب، وتحقيق المكاسب الداخلية والإقليمية والدولية. وهذا هو الخطّ العام للعلاقة حتى في ظلّ العقود الأربعة الأخيرة من عصر الجمهورية الإسلامية.
على هذا الرأي قد يلتقي 80 ٪ وربما أكثر، من السياسيين والستراتيجيين وأصحاب الرأي في إيران، وهو أمر معروف لدى واشنطن، والعواصم الأوروبية، كما في موسكو وبكين. يقول علي مطهري البرلماني الإيراني والنائب السابق لرئيس البرلمان، ونجل المفكر الإيراني مرتضى مطهري: "العلاقة الوثيقة مع روسيا والصين جيّدة، عندما تحرّك قلق أميركا، وتخفّف من ضغوطاتها، وتكون مقدّمة لعلاقة أفضل مع الغرب، لكي تحصل منافسة بين الغرب والشرق، ويكون لنا حقّ انتخاب الاتفاقيات والمعاهدات، لكي تتحقق المصالح الوطنية على نحوٍ أفضل".
يضيف مستكملاً: "أما إذالم تكن العلاقة في سياق هذا الهدف، وتحوّلنا إلى بطاقة لعب بيد روسيا والصين في إدارة اختلافاتهما مع أميركا، فإن هذه العلاقة ستكون مضرةللشعب. لذلك ينبغي أن نحسّن العلاقة مع الغرب، بموازاة العلاقة مع روسيا والصين"، (تغريدتان، بتأريخ 23 كانون الثاني 2022م).
هذا الكلام لعلي مطهري المعروف بوضوحه وصراحته وجرأته، يرسم لنا المعادلة الدقيقة في السياسة الخارجية الإيرانية، وأن محور موسكو - بكين لا ينبغي أن يتخطى الدور الوظيفي، في تعديل خيارات إيران مع الغرب وحسب، وهذا ما كانت موسكو تعيه جيداً وما تزال، وهو ما يفسّر عدم تفاعل بوتين مع طهران، خارج النطاق الوظيفي للعلاقة.
 
من رفسنجاني إلى روحاني
ستراتيجية التوجّه شرقاً بالمدلول الوظيفي، الذي يعني تحريك العلاقة مع الغرب، عبر ورقة موسكو، ليست جديدة، بل تعود على نحوٍ منهجي منظم إلى عام 1989م، في الزيارة التي قام بها هاشمي رفسنجاني إلى موسكو، والتقى بآخر زعماء الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. لقد أسفرت الزيارة نظرياً عن اتفاقية للتعاون المشترك بين البلدين لمدّة عشر سنوات، في حين كان منجزها الأساس حصول طهران على صفقة من طائرات ميغ 29.
عام 2001م حلّ الرئيس الأسبق محمد خاتمي ضيفاً على بوتين، وكان من نتائج الزيارة التوقيع على إطار للتعاون المشترك عبر اتفاقية من خمس سنوات، تجدّدت تلقائياً أربع مرّات، وانتهت العام الماضي. وكذلك زار الرئيس السابق حسن روحاني موسكو في آذار 2017م، كما زار بوتين طهران ثلاث مرّات، التقى في إحداها بالمرشد.
كمصداق من أبرز مصاديق استعمال طهران لموسكو كورقة ضغط في تحسين العلاقة مع الغرب، ذكر وزير خارجية إيران السابق محمد جواد ظريف، في لقاء مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو بتأريخ 26 كانون الثاني 2021م، أنه زار موسكو أكثر من (30) مرّة، ومع ذلك لم يتحدّث أحد من هؤلاء عن علاقة ستراتيجية مع موسكو، خارج نطاق الدور الوظيفي.
 
البُعد الاقتصادي
تعود أيّ علاقة ستراتيجية في المجال السياسي، إلى مجالات ثلاثة؛ هي السياسة والأمن والدفاع والاقتصاد، ومن يتحدّث في إيران الآن، عن علاقة ستراتيجية مع الشرق يتوكأ على الاقتصاد، لاسيّما وسط أزمة كبيرة يعيشها الاقتصاد الإيراني.
وهذا تحديداً هو ما يفسّر لنا كثافة الإعلام الإيراني، في الكلام عن "الفتوحات" الاقتصادية لزيارة إبراهيم رئيسي الأخيرة إلى موسكو قبل الزيارة وبعدها، بما في ذلك الملحق الخاص الذي أصدرته صحيفة "إيران" الرسمية بثمان وستين صفحة، وحشّدت فيه أقلام المختصّين الموالين للسلطة، في التبشير ببركات الزيارة وخيراتها.
بيدَ أن الأرقام تسجّل شيئاً مختلفاً بالكامل عن هذه الأماني والرغبات، وهي كلها أرقام إيرانية. نبدأ بما ذكره سفير إيران في موسكو، الذي يُطالب الكثيرون بإقالته بعد العثرات البروتوكولية الكبرى التي رافقت زيارة رئيسي، فقد ذكر السفير كاظم جلالي أن حجم الواردات الروسية من إيران خلال الأشهر العشرة الأولى من العام المنصرم (2021م) بلغ (775) مليون دولار، ومن المحتمل أن يصل إلى مليار دولار إذا أُضيفت إليه حسابات الشهرين الأخيرين، مذكراً ضمن حديثه إلى وكالة الأنباء الإيرانية "إيرنا"، بأن المليار هو رقم قياسي بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، (عن صحيفة: إيران، 28 كانون الأول 2021م).
أما حجم التبادل التجاري عام 2020م، فقد أفاد تقرير للتلفزة الإيرانية الرسمية، نقلاً عن الناطق باسم جمارك إيران، بأن هذا العام سجّل مبلغ (1,656,322) دولاراً لصالح روسيا، ومبلغ (432,877,392) دولاراً لصالح الصادرات الإيرانية، ما يعني أن مجموع الميزان التجاري بين البلدين لم يتخطّ المليارين لكليهما، علماً بأن حجم الواردات الروسية عام 2020م، تجاوز بحسب تقرير التلفزة الإيرانية نفسه، مبلغ (305) مليارات دولار، ما يعني أن نسبة التبادل بينهما لم تزد على 0,5 ٪، بل أقلّ.
 
النفط والغاز
إذا بقينا في المجال الاقتصادي فإن النتائج لن تكون أفضل، بالانتقال إلى المرفق الأهمّ الذي يراهن عليه أنصار الانفتاح على موسكو؛ أقصد به قطاع النفط والغاز الإيرانيين.
لقد تربّعت إيران على عهد الشاه محمد رضا بهلوي (ت: 1980م) على موقع المرتبة الثانية في تصدير النفط بعد السعودية، بواقع (5,5) مليون برميل في اليوم. لكن على عهد الجمهورية الإسلامية لم تستطع في أفضل أيامها، أن ترفع إنتاجها إلى ما فوق (3,5) مليون برميل يومياً، ولو ارتفع الحصار الآن، فإن مشكلة محدودية الإنتاج ستبقى على حالها، والسبب يعود إلى عدم تطوير البُنية التحتية لقطاعي النفط والغاز معاً.
لقد تحدّث المختصّون بالطاقة لحاجة إيران إلى (11) مليار دولار لتطوير حقولها عند وقف الحرب العراقية - الإيرانية، ثمّ (18) مليار على عهد رفسنجاني، و(68) مليار على عهد خاتمي، وهكذا صار المؤشر يتصاعد إلى اليوم، وأنصار الانفتاح على موسكو (والصين أيضاً) يعولون على المساعدة الروسية، في تطوير البُنية التحتية للنفط والغاز، بما يصل بإنتاج النفط إلى أكثر من (5) ملايين برميل يومياً، وإنتاج الغاز إلى (1,5) مليار متر مكعب يومياً، لأن روسيا بوصفها دولة منتجة للنفط والغاز تملك الخبرة اللازمة لذلك؛ والسؤال هل بمقدور موسكو أن تفعل ذلك فعلاً؟.
سوف لن أذهب بعيداً، بل استحضر أرقام ذكرها نهاية الأسبوع الماضي، المدير العام لشركة النفط الوطنية في إيران محسن خجسته مهر، في أول ندوة تدارسية مع الناشطين في سوق المال والاستثمار، لتطوير حضور القطاع الخاص في حقلي النفط والغاز. يقول خجسته مهر نصاً: "إذا أردنا أن نبلغ بإنتاجنا من النفط إلى (5،700) مليون برميل يومياً، فنحتاج تقريباً إلى (90) مليار دولار". يضيف: "وإذا أردنا لإنتاجنا من الغاز، أن يصل إلى مستوى حاجات البلد حتى عام 2025م، وهو ما يعادل (1,5) مليار متر مكعب يومياً، فإننا بحاجة إلى مبلغ (70) مليار دولار أخرى"، لتكون الحصيلة بحسب مدير شركة النفط الإيرانية، أن إيران بحاجة فعلاً إلى إنفاق (160) مليار دولار لتنمية البُنية التحتية للنفط والغاز (عن صحيفة: اطلاعات، الخميس، 27 كانون الثاني 2022م).
 
الوزير لم يخطئ
تضعنا جداليات ملف "ستراتيجية التوجّه شرقاً" بين قراءتين، أو على نحوٍ أدقّ بين منطق إدارة الدولة، ومتطلبات الإيديولوجيا. ضمن منطق إدارة الدولة، والتخفّف من أعباء العقوبات والحصار والأزمة الاقتصادية، كان وزير الخارجية عبد اللهيان دقيقاً جداً، عندما ذكر نصاً: "في السياسة الخارجية المتوازنة أخذنا بنظر الاعتبار، العلاقة المتزامنة مع الغرب والشرق".ضمن هذا الفهم جاءت زيارة إبراهيم رئيسي إلى موسكو بتأريخ 19 كانون الثاني 2022م، لتعبّر رغم كلّ المساوئ البروتوكولية والمضمونية التي نعتها بها المعترضون، عن بطاقة قوية شهرتها الحكومة الإيرانية بوجه الغرب بشقّيه الأميركي والأوروبي، وقد أتت بثمارها سريعاً، عندما أعطى عبد اللهيان بعد الزيارة مباشرة، الضوء الأخضر للتفاوض المباشر مع أميركا، وهو الأمر الذي عاد لتأكيده الرئيس إبراهيم رئيسي بعد أيام قليلة من تصريح وزير خارجيته، عندما ذكر في رابع حوار له مع التلفزة الرسمية بتأريخ 25 كانون الثاني، بأن إيران على استعداد للتفاوض المباشر والاتفاق مع أميركا، إذا ضمنت رفع العقوبات.
وهذا هو على وجه الدقة، التوازن الذي قصده الوزير عبد اللهيان في إدارة ملف السياسة الخارجية، على نحوٍ متزامن بين موسكو وواشنطن، فقد كانت زيارة رئيسي وظيفياً، ورقة لتمرير التقدّم باتجاه التفاوض مع أميركا، وتوقيع الاتفاق المرتقب في فيينا.كذلك أصابت وكالة "تسنيم" الحرسية في نقدها لهذه السياسة، لأنها تعكس منطقاً إيديولوجياً تعبّر عنه نظرية المقاومة الذكية التي حدّد أركانها الجنرال قاسم سليماني، ومن يتعاطف مع هذه الرؤية داخل الحرس، وفي الدولة والمجلس نفسه، مع ما تمليه هذه النظرية من تعامل ستراتيجي حقيقي في بناء محور الشرق، لكي يكون مظلة لسياسات إيران الخارجية، وحماية لتحوّلات عميقة مرتقبة في مسار الجمهورية 
الإسلامية.