داميان بولارد
ترجمة: جمال جمعة
منذ ولادة السينما الناطقة في أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كانت الدبلجة {dubbing} مألوفة في العديد من البلدان، من ضمنها (بالنظر فقط إلى أوروبا) إيطاليا، إسبانيا، وألمانيا، ولا تزال الدبلجة مستخدمة في العديد من هذه البلدان كوسيلة لترجمة الأفلام والبرامج التلفزيونية الأجنبية، وفي إيطاليا أصبح نظام الدبلجة متطوراً منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى أنه كان يتم استخدامه لإضافة أصوات إلى الأفلام الإيطالية، وحتى الثمانينيات عندما أدى ازدهار التلفزيون (الذي يستخدم الصوت المسجَّل مباشرة) إلى تغييرات في الممارسات الصناعية القياسية.
إذن لماذا اكتسبت مثل هذه الممارسة التي تبدو غريبة موطئ قدمٍ في بلدان تمتلك صناعة سينمائية مزدهرة؟ قبل كل شيء، أليست الترجمات النصّية "subtitles" طريقة أفضل لحفظ الفيلم الأصلي سليماً وترجمته في الوقت نفسه؟ وهنالك بعض الأسباب لذلك.
في أوائل القرن العشرين، كان لدى الكثير من الجمهور الذين يرتادون دور السينما في أوروبا مستويات منخفضة من الإلمام بالقراءة والكتابة، والترجمة النصية تكون عديمة الفائدة إذا لم تتمكن من قراءتها (أو قراءتها بسرعة كافية)، هنالك أيضا حجة مفادها أن الترجمات النصية المصاحبة على الشاشة تفسد صور الفيلم وتجعل عيون المشاهد ملتصقة بأسفل الشاشة، ومع ذلك، ربما يكون أهم الأسباب لتفضيل الدبلجة سياسياً.
الدبلجة أداة بارعة في الرقابة على الأفلام، وبدأت الأفلام الناطقة بالظهور في أوائل الثلاثينيات، في الوقت الذي كانت فيه العديد من البلدان قد وقعت تحت هيمنة الأنظمة الشمولية، في أوروبا، كان من ضمن هؤلاء بينيتو موسوليني، وفرانشيسكو فرانكو، والنازيون. الرقابة كانت سمة من سمات إنتاج الأفلام وتوزيعها في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا قبل أن تستولي هذه الديكتاتوريات على السلطة، لكنها زادت بشكل ملحوظ بعد استلامها زمام الحكم.
وجدت إيطاليا وإسبانيا، على وجه الخصوص، أن الدبلجة نافعة أيديولوجياً، فاشيو موسوليني، على سبيل المثال، تلاعبوا بالأفلام الأجنبية أثناء عملية الدبلجة من خلال تغيير الحوار لإزالة أية إشارة غير مجاملة نحو إيطاليا أو الإيطاليين، كما استخدموا الدبلجة لتعديل العناصر غير المرغوب فيها أخلاقياً في حبكات الأفلام، على سبيل المثال، الدبلجة الإيطالية للفيلم الأميركي "رجال في حياتها" عام 1931 تم تعديلها لإزالة الإشارة إلى موسوليني.
ربما كان الأمر الأكثر فظاعة، هو إصرارهم كذلك على دبلجة الأفلام باللغة الإيطالية الوطنية الموحدة (الشكل الرسمي للغة التي كانت مفهومة بشكل عام في جميع أنحاء البلاد)، وكانت تلك محاولة لمنع الناس في مناطق مختلفة من التحدث بلهجاتهم المحلية ولغات الأقليات، وكبح الكلمات الأجنبية عن الولوج إلى الثقافة الإيطالية، وأضحت الدبلجة الأداة القومية الرئيسة التي يمكنها توحيد إيطاليا وعزلها، على المستويين الاجتماعي والثقافي الأساسيين.
القصة نفسها تكررت في إسبانيا الفرانكوية، اذ أبقت الدبلجة الأفلام مقبولة أيديولوجيا وهمّشت لغات الأقليات مثل الكتالونية، والباسكية، والغاليسية، في ألمانيا ما بعد النازية، تم استخدام الدبلجة لتغيير حوارات الأفلام للتقليل من شأن الإشارات إلى الماضي النازي للبلاد والفظائع الوحشية التي ينطوي عليها. على سبيل المثال، تم تغيير النازيين في فيلم ألفريد هتشكوك "سيئ السمعة" Notorious عام 1946، ليصبحوا مهربي مخدرات عامين.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تحررت أوروبا الغربية (باستثناء إسبانيا) من الديكتاتورية وبدأت معرفة القراءة والكتابة في الازدياد، لكن الدبلجة ظلت قائمة، كان ذلك جزئيا لأنها أصبحت عادة راسخة ومألوفة، لكن الدبلجة أضحت أيضا حيوية لنظام الإنتاج المشترك الذي كانت السينما الأوروبية تعتمد عليه بشكل متزايد.
كانت الدبلجة تعني أن كل ممثل يمكنه تأدية دوره باللغة التي يختارونها عند التصوير (إذا شاهدت فيلماً قديماً مدبلجاً عن كثب، سيمكنك غالباً معرفة أن الممثلين يتحدثون لغات مختلفة، فيلم سرجيو ليون، "الطيّب، والشرّير، والقذر"، هو مثال واضح على هذه الممارسة)، كانت الأفلام تُصوَّر بدون صوت ويتم إنتاج تشكيلة مختلفة من الدبلجات بلغات مختلفة في مرحلة ما بعد الإنتاج، باستخدام فرق مختلفة من الممثلين الصوتيين.
العديد من مخرجي الأفلام كانوا يمقتون هذا الأسلوب، ورأوا في الدبلجة وسيلة لمحو الأصول القومية للأفلام. كما ادعى البعض أنها كانت جزءاً من حملة سياسية أوسع لتوحيد أوروبا (كان حلف الناتو والسوق الأوروبية المشتركة يقودان أيضا عملية الاندماج الأوروبي في ذلك الحين)، بعبارة أخرى، ربما تكون الشمولية قد تضاءلت، لكن بالنسبة للكثيرين فإن الدبلجة لا تزال أداة سياسية.
لا تزال الدبلجة تُستخدم كوسيلة رئيسة للترجمة السمعية والبصرية في العديد من البلدان وما زالت تجتذب نقاشات مُسيَّسة، على سبيل المثال، تتحجج سوق الأفلام في كندا الناطقة بالفرنسية بأن الدبلجة المنتَجة باللغة الفرنسية الأوروبية ليست ملائمة لتلك المنطقة، وكثيراً ما ينتهي المآل بالدبلجة، وبصورة غير مفاجئة، إلى أن تكون في صميم المناقشات حول سياسة اللغة والإمبريالية الثقافية، وفرض ثقافة بلد واحد على بلدان أو شعوب أخرى.
The Conversation