د. جواد الأسدي
عندما كنا نخرج من أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، اقدامنا كانت تجرنا الى ساحة الميدان ثم قهوة ام كلثوم، نحمل معنا كتباً غنية مثل الصخب والعنف لفاكنر والفولاذ كيف سقيناه لغوركي وعرس الدم لغارسيا لوركا .
إنَّ المناخات العذبة في مقهى أم كلثوم كانت تثير فينا شجنا حارا "هجرتك يمكن انسى هواك وعودت عيني على رؤياك وأروح لمين"، كان الوقت يمرُّ بمتعة غير مسبوقة، بعدها نتسلل الى شارع الرشيد نمرُّ على مقهى حسن عجمي ومقهى البرلمان، ثم نعرّجُ على شارع المتنبي وشارع النهر بنشوة وتوثب، وصولا الى مسرح بغداد البيت الجمالي لفرقة المسرح الفني الحديث، حيث المخرجون والممثلون والكتاب قد انضجوا طبختهم الإبداعية في النخلة والجيران وهاملت والخال فانيا . كأننا كنا نعيش في لحظات سمو وارتقاء ابداعي متفرد جنبا الى جنب، مسرح اليوم والمسرح الشعبي والمسرح القومي . يا لها من ألفة نادرة وعيش رحيم ومؤنس، حتى وقعت تلك العاصفة الملوثة التي أطاحت حياتنا وجرتنا الى حروب راح ضحيتها أجمل فتيان العراق. صارت التوابيت تتخاطف هنا وهناك تهدمت الحياة لوثها السياسيون، فبدت بلاد الرافدين كما لو أنها بلاد الرماد، ماتت المصانع وجفت الحياة وأقفرت البيوت وشحت المياه، صارت الشوارع موحشة ترمدت المقاهي وما من مارة في الشوارع، حتى شارع الرشيد وشارع المتنبي قد تحولا الى ملعب للكلاب السائبة، عمَّ الخراب على ضفاف دجلة والفرات وساد السواد.
مرت السنوات سريعا مثل قطار ممسوس قد حمل الأمهات والأطفال والشيوخ والحياة في عربات الريح والهتك، المنفيون والراسخون في البلاد شركاء المآتم عادوا من جديد يحملون على ظهورهم قصائد الوجع، وبعض مسرات يتيمة لتسود روح إعادة كتابة البلاد مرة اخرى على وجع وصبر وقوة فولاذية. الفنانون والكتاب يعاودون الحفر مجددا لاستعادة الطمانينة المكسورة الظهر، عروضٌ مسرحية هنا وملاحم شعرية هناك، والموسيقيون يدشنون ويضربون على أوتارهم لعزف حياة جديدة، ومرة أخرى يعود المتنبي جمهورية الإبداع العراقي الى الظهور، المعمار علاء معن يكتب نشيد إعادة جمال الشارع ويكتظ الناس صباحا ومساء، ليصير شارع المتنبي ملاذا للكتب الفريدة وعطش الناس للتوغل في التهامها، الموسيقى تصدح في الليل والناس يفترشون المتنبي بيتا أليفًا وحياة حرة.
إنَّ عودة الحياة المدنية للعراقيين الذين وقع عليهم الضيم، أمرٌ غاية في الأهمية. اليوم شارع المتنبي وغدا شارع الرشيد، ثم شارع أبو نواس، من يدري ربما يعشب العراق ثانية مع عقول متفتحة مصابة بفيروس إعادة غرس الجمال ثانية على يد الجيل النهضوي من الرواد والشبان، المنهمكين في إعادة بلاد التاريخ الى عصر النور.