الطاقة وأقواس الأزمة من أوروبا حتى آسيا

قضايا عربية ودولية 2022/03/15
...

 جواد علي كسار
أقواس الأزمة في العالم وتوترات السياسة الروسية، تمرّ جميعاً بالتنافس على الطاقة وصراعات النفط والغاز، لا تكاد تشذ عن ذلك أزمة خلال العقود السبعة، التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وبالرغم من تنوع العوامل الجيوسياسية والرغبة بصناعة خرائط نفوذ ستراتيجية جديدة، فإن أزمة أوكرانيا والتجاذبات الأوروبية، والصراعات المحورية بين أميركا وروسيا والصين حاضراً، وخطوط التوتر الحالية في وسط آسيا وشرقها وغربها وفي القوقاز، مروراً بأميركا اللاتينية وأفريقيا، بلوغاً إلى قلب منطقتنا؛ هي جميعاً تخبو وتشتعل بلهيب النفط والغاز، والرغبة العارمة في الهيمنة على الإنتاج والتصدير للمنتجين، كما ضمان الاستقرار في الأسواق ورخص الأسعار، بالنسبة إلى المستهلكين.
خريطة الكبار
يخضع الغاز إلى المعايير نفسها التي تنتظم النفط، وهو يتوزّع بين حقولٍ أربعة؛ هي مقدار الاحتياطي المؤكد، وحجم الإنتاج، وكمية الاستهلاك الداخلي، وأخيراً مقدار الصادرات. لا تزال روسيا هي الأولى على قائمة كبار مالكي الثروة الغازية في العالم، بذخائر مؤكدة تصل إلى (48) ألف مليار متر مكعب، تليها إيران بواقع (33) ألف مليار، ثمّ قطر (24) ألف مليار، ثمّ تركمنستان (17) ألف مليار، وبعدها أميركا (12) ألف مليار، ومن ثمّ السعودية (9) آلاف مليار، والعراق (7) آلاف مليار، وبعد العراق فنزويلا ونيجيريا والصين والجزائر واستراليا، وهكذا إلى بقية القائمة.
لكن إذا تركنا الاحتياطيات الثابتة وحجم الذخائر، فإن الأرقام تختلف إلى حدّ كبير، حين يتعلق الأمر بحجم الإنتاج، وكمية الاستهلاك الداخلي، ومقدار الصادرات. فلو أخذنا عام 2020م دالة على الإنتاج السنوي، فقد تصدّرت أميركا قائمة المنتجين للغاز، بما يصل إلى (914) مليار متر مكعب، جاءت بعدها روسيا بمقدار (638) مليار، وحلّت إيران بالمرتبة الثالثة بحجم (250) مليار متر مكعب.
 
قوائم المصدّرين
لكن التصنيف سيختلف إذا انتقلنا من كمية الإنتاج إلى حجم الصادرات، لنكون أمام قوائم للمصدّرين وليس قائمة واحدة. فمن حيث النسبة المئوية تتقدّم روسيا قائمة المصدّرين، بما يصل إلى 25 ٪ من صادرات الغاز العالمية، وقطر 10 ٪، بينما تتراجع إيران رغم احتياطيها الهائل ورتبتها الثانية عالمياً، إلى حدود 1 ٪ فقط، قد ترتفع في بعض مواسم السنة إلى 1,9 ٪ عندما يخفّ استهلاك الغاز في الداخل الإيراني ويقلّ الطلب عليه.
تكتسب هذه القائمة ترتيباً آخر إذا ربطنا بين كمية الإنتاج وحجم التصدير، لتتقدّم قطر دول العالم أجمع منذ عقدٍ ونصف تقريباً، وهو الموقع الذي خسرته أخيراً، لصالح استراليا. فبحسب موقع "الطاقة" بلغت صادرات الغاز الطبيعي المسال في السوق العالمية، عام 2021م نحو (380) مليون طن، تصدّرت فيها استراليا القائمة بإجمالي (80) مليون طن، تلتها قطر بنحو (77,4) مليون طن، لتخسر موقع الصدارة الذي تبوأته منذ عام 2006م، تلتها أميركا في تصدير (71,9) مليون طن، لتحلّ روسيا في المركز الرابع، بواقع (29,3) مليون طن، وهذه هي المفاجأة!.
ففي عام 2021م لم تكن عوامل الأزمة قد انطلقت بعد في أوكرانيا، والحرب بدأت فعلياً يوم 24 شباط من هذا العام؛ فلماذا إذن تراجع تصدير روسيا من الغاز إلى المركز الرابع عالمياً، وكيف تُفسّر هذه المفارقة؟ يعيد بعضهم ذلك، إلى رغبة عميقة لموسكو في أن تلعب بأعصاب المستهلك الأوروبي، وترفع أسعار الغاز اقتصادياً، وتحقق مكاسب سياسية من وراء ذلك، لكن موسكو رفضت ذلك وعزت التراجع النسبي إلى أسباب فنية، في طليعتها أعمال الصيانة التي دامت شهرين صيف 2021م.
 
قرن الغاز
مهما قيل عن خيارات الطاقة البديلة فلا يزال محور الطاقة يدور عالمياً حول الوقود الأحفوري، بعناصره الثلاثة الكبرى؛ الفحم والنفط والغاز. وإذا كان القرن العشرين الذي تصرّمت سنواته منذ عقدين، هو قرن النفط بامتياز، فإن رؤوساً مهمّة في اقتصاد الطاقة، تريد للقرن الحادي والعشرين الحالي، أن يكون قرن الغاز.
يدعم هؤلاء رؤيتهم لقرن الغاز بمعطيات رقمية اقتصادية وبيئية، بالإضافة إلى مؤشرات جيوسياسية وستراتيجية تجتاح السياسة العالمية، قد تؤدّي إلى تحوّلات عميقة في السياسة كما في الطاقة. يُشير هؤلاء من بين هذه التحوّلات إلى ثلاثة تأتي في الطليعة؛ هو إعلان أميركا نفسها قوّة باسفيكية، وانعطاف الصين إلى الداخل ضمن ستراتيجية التبادل المزدوج، والسعي الحثيث لروسيا وراء الأوراسية الجديدة.
من المؤشرات الرقمية ما ذكره رئيس مكتب بحوث الطاقة في فيينا، من أن نمو الاستهلاك العالمي للغاز بلغ عام 2020م، ما معدله 2,9 ٪، مقابل 1,1 ٪ للنفط، و0,9 ٪ للفحم الحجري.
أما محمد حسين عادلي الأمين الأسبق لمنتدى الدول المصدّرة للغاز، فقد ذكر أن حصة الغاز في الطاقة العالمية الآن، هي 22 ٪، والنفط 32 ٪. لكن في عام 2050م ستنخفض حصة النفط إلى 27 ٪، وتزداد حصة الغاز إلى 27 ٪، ما يدلّ على النمو المتواصل لدور الغاز في الطاقة العالمية.
من الأرقام التي تؤكد الدور المحوري للغاز، ارتفاع صادرات الغاز المسال عام 2021م، بنسبة نمو سنوي بلغ 7 ٪، مقارنة لما كان عليه عام 2020م. فقد سجّلت هذه الصادرات نحو (380) مليون طن عام 2021م، مقابل (355,1) مليون طن في عام 2020م.
مما يستدل به أنصار قرن الغاز، في تحديد الأسعار، هو التبادل الموضعي بين موقعي النفط والغاز، في تحديد الأسعار. فقد كان سعر الغاز يتحدّد غالباً، على ضوء سعر النفط وبالتبع له، من خلال ما يحتويه البرميل الواحد من وحدات حرارية. لكن الواقع الآن يشير إلى اتجاه معاكس، يُنبئ بتحكّم الغاز بالنفط، على النحو الذي تحوّل فيه الغاز إلى منصّة لرفع سعر النفط.
على أن واقع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على أوروبا، كشف خلال الأسابيع الماضية، عن الدور الحيوي الذي بات يلعبه الغاز في منظومة الطاقة الأوروبية، وتأثير موسكو الجيوستراتيجي المهمّ، بوصفها المنتج الأول للغاز في العالم وأكبر مصدّريه إلى أوروبا، ودور المنافس الأميركي وبقية المنتجين في تحديد الخيارات البديلة، وإعادة بناء المواقف، ورسم خرائط الصراع.
وقد يكفي هؤلاء، أن يستدلوا على أهمية الغاز وكلمته النافذة في ستراتيجيات الطاقة، ومعادلات السياسة خلال العقود القادمة؛ أن حجم الاستثمار العالمي في توسعة حقول الغاز ومحطاته، قد بلغ عام 2019م، نحو ثلاثة أضعاف ما أُنفق على تنمية النفط في العام نفسه؛ بالتحديد (2,7) ضعف.
 
منتدى الغاز
منذ تأسيسها عام 1960م وعلى مدار ثمانية عقود و"أوبك"، هي أكبر منظمة تتحكّم بالنفط، اتسعت رقعتها عام 2017م بالتنسيق مع منتجين آخرين، في طليعتهم روسيا وآذربيجان وكازخستان والمكسيك وماليزيا، عبر ما بات يُعرف بـ"أوبك بلاس" على النحو الذي لم يعد خارج تأثير منظمة "أوبك" وحلفائها، سوى أميركا بصفتها منتجاً كبيراً للنفط.
هكذا مضى النفط على عكس الغاز، الذي بقي على مدار عقود خارج الإطار المؤسّسي، إلى عام 2001م عندما بادرت طهران إلى استضافة مؤتمر عُدّ هو الأول لأبرز البلدان المصدّرة للغاز عالمياً. ومع أنه شكّل إرهاصاً في طريق تكتيل هذه البلدان، إلا أنه لم يتمخّض عن إطار محدّد. حصلت الانعطافة سنة 2006م عندما كان ايفور ايفانوف سكرتير مجلس الأمن الروسي في زيارة إلى طهران، والتقى بتأريخ 28 كانون الثاني 2007م بالمرشد السيد علي خامنئي الذي أبدى لضيفه الروسي، الملاحظة التالية: "بمقدور البلدين أن يضعا بمساعدة بعضهما، حجر الأساس لمنظمة خاصة بالتعاون الغازي، تكون على غرار (أوبك)". كرّر خامنئي الفكرة نفسها وعرضها على بوتين عندما زار الرئيس الروسي طهران، والتقى المرشد بتأريخ 16 تشرين الأول 2007م، لتتكوّن البذرة الصلبة للمنظمة الغازية، التي يحلو للكثيرين تسميتها "أوبك الغازية".
بعد سلسلة من الاجتماعات الوزارية المتكرّرة، وقّع المجتمعون في موسكو بتأريخ 23 كانون الأول 2008م، الوثائق التي ولد على أساسها قانونياً منتدى البلدان المصدّرة للغاز، وهو المنتدى الذي يضمّ (11) عضواً، هم روسيا وإيران وقطر والجزائر ومصر وبوليفيا وغينيا الاستوائية وليبيا ونيجيريا وترينيداد وتوباغو وفنزويلا، بالإضافة إلى (7) دول بصفة مراقب، هي أنغولا وآذربيجان والعراق وماليزيا والنرويج وبيرو والإمارات العربية.
تضم بلدان المنتدى أكثر من 70 ٪ من احتياطيات الغاز في العالم، و44 ٪ من الإنتاج، موزّعة على 64٪ من غاز الأنابيب، و66 ٪ من الغاز الطبيعي المسال. عقد تجمع البلدان المصدّرة للغاز (GECF) ست قمم للآن، أولها في الدوحة عام 2011م، والثانية في موسكو عام 2013م، والثالثة في طهران عام 2015م، والرابعة في بوليفيا عام 2017م، والخامسة بغينيا الاستوائية عام 2019م، والأخيرة في الدوحة في 22 شباط الماضي، إذ استطاعت دول المنتدى أن تسجّل حضوراً مكثفاً، في ستراتيجيات التنافس على الأسواق والصراع على مناطق النفوذ. على سبيل المثال، بقيت أوروبا سوقاً محتكرة للغاز الروسي؛ والغاز القطري اتجه في الغالب للهند والصين واليابان أو السوق الآسيوية عموماً وعبر العقود طويلة المدى، على حين أوقفت ظروف الحصار بالغاز الإيراني على السوقين العراقية والتركية وحدهما، لاسيّما مع ضعف إمكانات إيران الفنية في البُنى الأساسية والقدرة المحدودة على إنتاج المزيد من الغاز.
 
الأسعار
لا ريب أن أسعار الغاز هي في طليعة العوامل التي تجعل من الغاز سلعة ستراتيجية، يدور من حولها التنافس وتتحوّل إلى مادّة للصراع حول العالم؛ في أوروبا وآسيا وفي قلب منطقتنا وفي أفريقيا، وفي كلّ مكان.
ومعادلة الأسعار واضحة؛ فبقدر ما يسعى المنتج نحو تعظيم إيراداته، تبرز لدى المستهلك إرادة مقابلة لخفض الأسعار، أو الحفاظ عليها مستقرّة على أقلّ تقدير. وهذه معادلة يبدو تحققها صعباً، ليس فقط بفعل الحروب والصراعات، بل بفعل التنافس الدولي، ورغبة أقطاب العالم وقواه السياسية والاقتصادية الكبرى، لإعادة صياغة خرائط النفوذ في السياسة العالمية، بما يحقق لها أكبر المكاسب الستراتيجية والاقتصادية، وأعلى قدر من الهيمنة والسيطرة.
لكي نتصوّر ما يتوارى خلف المشهد الذي يدور من حولنا وفي العالم برمته، نمرّ على التحوّلات التي ضربت أسعار الغاز، من خلال بعض المحطات، لكي ندرك أبعاد الحروب والصراعات، وبؤر التوتر في الدنيا التي نعيش فيها.
على سبيل المثال كان متوسط سعر الغاز في أوروبا في شهر تشرين الثاني عام 2020م (168) دولاراً لكلّ 1000 متر مكعب، وقد ارتفع في شهر كانون الثاني إلى (202) دولار، وفي أعياد رأس السنة عام 2021م بلغ (243) دولاراً، وفي 5 كانون الثاني من العام نفسه وصل إلى (250) إذ يعود التفاوت إلى برودة الطقس وتزايد الاستهلاك وكثرة الطلب، وقد تخللت ذلك أسباب فنية ترتبط بطاقة المحطات وممرات النقل، وهكذا.
بيدَ أن الأسباب السياسية وتلك الناشئة عن الأزمات ومنها الأزمة الأوكرانية، أدّت إلى قفزات في الارتفاع. ففي 3 آب عام 2021م، قفز سعر الغاز في أوروبا إلى (500) دولار لكلّ ألف متر مكعب، سرعان ما تصاعد إلى (1200) دولار في 5 تشرين الأول من العام نفسه، عندما أصبح العالم على تخوم الأزمة. ومع تصاعد الأزمة واشتدادها وتحولها إلى حرب مباشرة، وما نشأ عنها من عقوبات ضدّ روسيا، لم تتجه مباشرة إلى النفط والغاز، فيما عدا ما فرضته أميركا بنحو عام وبريطانيا بنحو جزئي؛ شهدت أسعار الغاز ارتفاعاً لم تعهده مطلقاً في تأريخ علاقة البشرية مع هذا الصنف من الوقود. فقد بلغت الأسعار (2226) دولاراً، لكلّ ألف متر مكعب في 2 من شهر آذار الحالي، ثمّ ازدادت إلى (3600) دولار في 7 آذار، لتبلغ الذروة عند (3900) دولار، قبل أن تعود للانخفاض النسبي.
هناك ملاحظات فنية وتفصيلية ترتبط بحرب الأسعار، بيدَ أنها لا تؤثر في جوهر الصراع، من ذلك مثلاً أن الغاز الطبيعي الروسي الذي يُضخّ عبر الأنابيب، أرخص في العادة من الغاز المسال بين 20 - 40 ٪، وأن الأرباح السنوية التي كانت تنتظر موسكو، من خط أنابيب نورد ستريم (2) الممتد من روسيا إلى أوروبا تحت بحر البلطيق، كان من المتوقّع أن تصل إلى (80) مليار دولار، ضمن  الأسعار القديمة، وذلك قبل الحكم عليه بالموت من خلال العقوبات.
وبشأن منطقتنا، فإن الغاز القطري أرخص إجمالاً من الإيراني. فالصحافة الإيرانية تتحدّث عن (24 - 30) سنتاً للمتر المكعّب الواحد، كثمن للغاز الذي يستورده العراق وتركيا قبل أن ترتفع الأسعار، وقد دخلت قطر منافساً على السوقين العراقية والتركية ضدّ إيران، كما فعلت من قبل مع باكستان وكسبت سوق هذا البلد.
حرب أوكرانيا ومواجهة أوروبا لأزمة الطاقة، والعقوبات الأميركية والبريطانية، وارتفاع الأسعار، قادت مجتمعة إلى صراعات حادّة علنية وخفية، على الخيارات البديلة، بين الغاز الروسي والأميركي والاسترالي، وغاز المنطقة في محاوره المتعدّدة؛ الإيراني والقطري والجزائري، وغاز شرق المتوسط المصري والتركي 
واللبناني والسوري؛ والخيار الصامت المتمثل بالعراق، مصدراً للغاز الطبيعي، وممراً تتنافس عليه قطر وإيران، إلى أوروبا، ولذلك قصة
أخرى.