أحمد عبد الحسين
مقرّر في علم النفس أن طقوس الحداد على الفقدان مرحلة لا بدّ منها لاستيعاب هذا الفقد وتجاوزه، ومن دون هذه الطقوس سنغامر بتحويل مأساتنا الشخصية إلى رضّة نفسية تصاحبنا في حلّنا وترحالنا.
منذ عشر سنوات، أيْ منذ أوّل احتجاج كبير على العملية السياسيّة في العراق، بدا واضحاً أنّ هوّة لا سبيل إلى ردمها حدثتْ بين شريحة الشباب والقائمين على الحكم، حكومة وأحزاباً وقيادات. كانت الهوّة تتسع باضطرادٍ حتى حلّ خريف 2019 معلناً العداء الكامل بين الاثنين بوجهٍ عنفيّ راح ضحيته المئات من الشبّان الذين كان سلاحهم أعلاماً مخضّبة بدمهم.
ومن يومها لم يجرِ أيّ كلامٍ. الرفض كان متبادلاً والكراهية كذلك. الأحزاب المتنفذة كانت تخلق كيانات صغرى باسم الشباب تابعة لها باطناً مستقلّة ظاهراً وتحاورها، أيْ أنها كانت تحاور نفسها وكان الأمر مضحكاً إذ سرعان ما تتكشّف الحقيقة: أنْ لا استقلال ولا حوار ولا هم يحزنون.
اكتفتْ الأحزاب من الحوار بهذه النسخة الكاريكاتيرية لتبرئ ذمّتها أمام الإعلام. أما جمهرة الشباب فأنفوا من محاورة السياسيّ، وهذه الأنفة تأكدتْ بعد أن تحوّلت الكراهية بينهما إلى قنابل غاز قاتلة داخل الساحات وكواتم مجهولة خارجها. وانكفأ كلٌّ منهما على نفسه يحاورها، وفي انكفائهما مقتلٌ للاثنين معاً.
انشغل المحتجون بمحاورة أنفسهم فظهر انقسامهم جلياً من خلال صراعات هوائية على منصات التواصل غرضها التفتيش عن التشرينيّ "الحقيقي" مقابل التشرينيّ "المستنسخ"، فأغرقوا أنفسهم بتفاصيل شتتت جهودهم. كما انشغل أهل الحكم في غيبوبتهم عن العالم كالعادة ودخلوا في فاصل إنكاريّ طويل أرادوا منه تتفيه الاحتجاج ووصمه بالمؤامرة وإلصاق تهم العمالة والجوكرية بالشباب. وهم لا يعلمون أن هذا الإنكار وتلك الدعاية الساذجة لا تحلّ محلّ مراجعة صادقة وحوارٍ حقيقيّ تأخرا كثيراً.
أدرك صعوبة إنشاء كلام عن المصيبة خصوصاً بعد مسيل الدم. لكنّ التجارب الكبرى للشعوب كما التجارب الصغرى في العرف القبليّ مثلها مثل مقرّرات علم النفس؛ تعلّمنا أن طقس الحِداد ضروريّ للتخلّص من آثار المصيبة، وأنّ هذا الطقس لنْ يكتمل إلا بكلام واضح وصريح عمّا حدث.
الكلامُ عن المصيبة ليس ترفاً ولا نكأ جراح. إنه علاج!