الارتدادات الحقيقية لضربة إيران الصاروخية في العراق

العراق 2022/03/19
...

 ترجمة: أنيس الصفار                                            
 
في يوم الأحد 13 آذار اطلقت إيران ما يقارب 12 صاروخاً باليستياً من طراز “فاتح 110” على أهداف في مدينة أربيل شمالي العراق غير بعيد عن مجمع قنصلية الولايات المتحدة هناك. أدى الهجوم إلى إصابة شخصين على الأقل كما سبب أضراراً جسيمة بعدد من السيارات والممتلكات بينها غرفة الأخبار في مؤسسة “كردستان 24” الإخبارية. أدى الهجوم أيضاً إلى  تصاعد مشاعر القلق من وقوع مزيد من التصعيد وسط أجواء المساعي المتعثرة لإحياء الصفقة النووية المعروفة رسمياً بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”.
في إطار اعترافه بالمسؤولية عن الضربة، أعلن فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني أنه قد استهدف ما وصفه بـ”المركز الستراتيجي الصهيوني للمؤامرات والشر” في أربيل كرد على الضربة الإسرائيلية التي أدت إلى  مقتل ضابطين من الحرس الثوري في دمشق، بتاريخ 7 آذار. كما تعهد الحرس الثوري بتوجيه ردود قاسية وحاسمة ومدمرة إلى أي مغامرات خبيثة أخرى، على حد تعبيره.
في وقت لاحق من اليوم نفسه بدأت وسائل الإعلام القريبة من إيران ببث ادعاءات تفيد بأن هجوم الحرس الثوري على أربيل قد أسفر عن مقتل وجرح عدد من أفراد وكالة التجسس الإسرائيلية “الموساد”، وأنه جاء رداً على هجوم نفذته طائرة مسيرة في 14 شباط انطلقت من إقليم كردستان العراق. 
نفى محافظ أربيل أمام وسائل الإعلام أي تواجد لاسرائيل في إقليم كردستان العراق، غير أن صحيفة “واشنطن بوست” اوردت في تقرير لها اعتقاد المسؤولين الأميركيين بأن الحرس الثوري قد استهدف ما وصفوه بأنه “بيوت تديرها خلية للموساد”. رغم هذه الادعاءات باحتمال وجود تدخلات خارجية في العراق وصف الرئيس العراقي برهم صالح الهجوم الإيراني بأنه “فعل إرهابي” كما استدعت وزارة الخارجية العراقية السفير الإيراني لتبلغه احتجاجها. 
لم تكن هذه أول مرة تدعي فيها إيران أنها استهدفت مواقع تابعة للمخابرات الإسرائيلية في كردستان العراق، ففي شهري نيسان وتشرين الأول 2021 نشرت تقارير مماثلة، لكن مقارنة بالاتهامات السابقة المجردة يبدو أن   هجوم الحرس الأخير في 13 آذار كان التصعيد الأحدث بين إيران وإسرائيل في المواجهة المستمرة بينهما بلا توقف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. من الملاحظ أن إيران قد ازدادت تحسساً من الوجود الاسرائيلي في السنوات الأخيرة، لاسيما بعد اغتيال الولايات المتحدة قائد الحرس الثوري قاسم سليماني في كانون الثاني 2020. 
هذا الحدث يساعدنا في فهم السبب الذي جعل الحرس الثوري يطلق أوسع تمارين عسكرية له حتى الآن في تشرين الأول 2021 على الحدود بين إيران وأذربيجان، حيث أدت أسباب القلق الإيراني من التواجد الاسرائيلي في جنوب القوقاز إلى تضخيم نزاع حدودي صغير مع أذربيجان وتحويله  إلى  شأن أكثر تأزماً.
رغم هذا تبقى نوايا إيران ازاء تحدي التواجد الاسرائيلي المزعوم في العراق تمثل تهديداً للولايات المتحدة. ففي تصريح له عقب هجوم 13 آذار وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية “نيد برايس” العملية بأنها “انتهاك صارخ لسيادة العراق”، لكنه عاد فنبه إلى عدم وجود ما يشير إلى    أن الهجوم كان موجهاً  إلى  الولايات المتحدة. 
على غرار ذلك تحدث مستشار الأمن القومي “جيك سوليفان”  إلى وكالة “سي بي أس” فقال: إن   الهجوم لم يسفر عن إصابة مواطنين أميركيين كما لم تصب أي من المنشآت التابعة للولايات المتحدة.” 
هذان التصريحان يستحقان الانتباه لسببين، الأول هو انهما يتضمنان ايحاءً بأن القدرات الصاروخية الإيرانية قد بلغت الآن درجة من التقدم تمكن الحرس الثوري من تدمير الأهداف التي يريدها بدقة رغم قربها الشديد من الأميركيين دون التسبب بأضرار جانبية لا داعي لها أو التعرض للاسقاط من قبل الدفاعات الصاروخية الأميركية. ثانياً، أن إيران قد اظهرت قدراً مشهوداً من الانضباط في ردها على ما عدّته عدواناً بحيث كان في الرد متسع للانتقام ولخفض التصعيد معاً. هذه الحقيقة أقرّ بها قادة عسكريون أميركيون كبار في السابق عقب إطلاق إيران ضرباتها الصاروخية الانتقامية على قاعدة جوية تضم تواجداً أميركياً وعراقياً مشتركاً عقب مقتل سليماني في كانون الثاني 2020 فتسببوا بإصابة أكثر من 100 عسكري أميركي دون قتل أحد منهم، وقد جاءت الضربة الصاروخية الأخيرة بمثابة تأكيد إضافي على قدرات إيران ونواياها. 
عدا ذلك تشهد ضربات الحرس الثوري أيضاً بأن إيران قد ازدادت جرأة ورغبة في الاقتصاص من اعدائها مباشرة بالصواريخ الباليستية. يعتقد “جون كريزانياك”، وهو باحث في المعهد الدولي للدراسات الستراتيجية، أن   إيران قد ضربت أهدافاً داخل العراق وسوريا بالصواريخ الباليستية ست مرات منذ العام 2001 وقعت خمس منها بعد العام 2017، لكن الأمر الأقل وضوحاً هو ما السبب الذي جعل إيران أكثر اعتماداً على صواريخها الباليستية الان رغم توفر خيارات عديدة أخرى “غير متناظرة” للرد على أي عدوان متصور. 
يقول علي رضا أحمدي، وهو محلل وباحث في شؤون دول الخليج: “لقد شنت إيران هجماتها في عدة مناسبات سابقة عقب تعرضها لأحداث معينة أو رداً عليها حتى لو لم تكن تلك الأحداث هجمات عسكرية مباشرة سببت إصابات بين الإيرانيين.” ورغم ما يحمله هجوم الحرس الثوري في 13 آذار كما يبدو من دلالات على تنامي ثقة إيران بقدراتها يبقى من الصعب الجزم بما إذا كان الأمر مجرد إحساس من جانبها بأن الفرصة أمست سانحة للخروج بتصريح جريء أم انها أرادت إعطاء إشارة بأن عملياتها الانتقامية المستقبلية سوف تكون أكثر تكراراً ومباشرة. بصرف النظر عن ذلك كله، كما يشير أحمدي، فإن إيران كانت عاكفة على الارتقاء بمستوى التطور والدقة في أسطول صواريخها بغية تحقيق مثل هذه القدرة بالضبط على الردع بدلاً من الانصراف إلى  تحديث جيشها التقليدي على النحو المطلوب. 
لهذا السبب يتوقع من إيران أن   تواصل اعتمادها على القذائف الباليستية لردع أخطر التهديدات على أمنها والتصدي لها.
بيدَ أن هذه الأخبار لن تكون مريحة للولايات المتحدة التي كانت تسعى منذ زمن إلى تجنب الانجرار  إلى  الصراع الإيراني الاسرائيلي، حتى عندما كانت تلقي بثقلها في كفة إسرائيل وتوجه الضربات بين حين وآخر إلى  القدرات العسكرية الإيرانية. 
فإدارة ترامب مثلاً قدمت دعماً واسعاً من هذا القبيل للحرب الجوية التي كانت اسرائيل تشنها على المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا  إلى  حد جعل وزير الدفاع الأميركي آنذاك “جيمس ماتيس” يشعر بالتوجس من أن ترتد التصرفات الاسرائيلية بعواقب وبيلة على الولايات المتحدة، وفقاً لصحيفة “أورشليم بوست”. ورغم أن الرئيس “جو بايدن” قد أمر هو الآخر بتوجيه ضربات جوية  إلى  الجماعات التي تدعمها إيران، وكانت أحدثها في سوريا خلال شهر شباط 2021، فليس من الواضح ما إذا كانت إدارته قد واصلت تقديم الدعم الراسخ الذي كانت تقدمه إدارة سلفه للعمليات العسكرية الإسرائيلية. 
لكن هل سيكون المخططون العسكريون الإيرانيون على هذه الدرجة من الفرز والتمييز؟ ففي شهر تشرين الثاني 2021 كشفت صحيفة “نيويورك تايمز”   أن إيران وجهت ضربة بطائرة مسيرة  إلى  قاعدة عسكرية أميركية في جنوب سوريا في اعقاب ضربات جوية إسرائيلية دمرت أهدافاً إيرانية في سوريا في الشهر السابق. 
كانت هذه هي المرة الأولى التي توجه فيها إيران ضربة عسكرية إلى الولايات المتحدة رداً على هجمات نفذتها إسرائيل، وفقاً للصحيفة. من المحتمل أيضاً أن تعقب ذلك هجمات أخرى تكون لها عواقبها في مناطق بعيدة عن الشرق الأوسط.
من المؤكد أن التأزم ثلاثي الأطراف بين الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل قد أدى  إلى  تعقيد المساعي المضنية التي تبذلها واشنطن وطهران من أجل إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة” لأن الحكومة الإسرائيلية تبقى معارضة بقوة لإعادة العمل بالاتفاقية ثابتة على موقف العداء رغم أن حكومة جديدة هي التي تمسك الان بمقاليد السلطة في إسرائيل ورغم كل الايضاحات التي طرحها مسؤولو أمن إسرائيليون سابقون بأن الصفقة سوف تبقى في إطار المصلحة القومية لاسرائيل. 
ففي الشهر الماضي انتقد رئيس الوزراء الاسرائيلي “نفتالي بينيت”الصفقة النووية المتلكئة ووصفها بأنها أضعف من سابقتها، في حين أشار سلفه “بنيامين نتانياهو” إلى  هجوم إيران على أربيل في 13 آذار بأنه سبب مضاف يؤكد أن إيران نفسها وكذلك التزامها المستقبلي بخطة العمل لن يمكن الوثوق بهما.
لحسن حظ نتانياهو أن قرار إحياء الاتفاق النووي مع إيران لم يعد مرهوناً كلياً بالمواقف الأميركية والإيرانية نظراً لبروز مطالب روسية بالحصول على ضمانات تحريرية تنص على أن   العقوبات المفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا لن تؤثر بأي شكل في حقها الكامل وحريتها في التعامل مع إيران في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية والعسكرية والتكنولوجية. 
هذه المطالب أذكت المخاوف من أن   تحاول موسكو أخذ المحادثات رهينة للحصول على فوائد منها أو استعمال الاتفاقية كورقة ضغط للخروج بصفقة أفضل مع الغرب حول أوكرانيا.
أياً تكن دوافع موسكو فقد توقفت المفاوضات وانتاب إيران والولايات المتحدة معاً الغضب الشديد، بل أن    وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان صرح بأن بلاده لن تسمح لأي عوامل خارجية بالتأثير في مصالحها الوطنية وطلب من روسيا   أن توضح موقفها رغم حرص إيران الشديد على عدم تعريض علاقاتها الوثيقة مع روسيا للاهتزاز. 
اما رد فعل واشنطن فقد جاء أكثر جرأة حيث رفض المسؤولون الأميركيون بحزم مطالب روسيا التي اعتبروها “غير ذات صلة” وهددوا بعزل موسكو عن طريق اللجوء  إلى حلول بديلة إذا ما أصر الروس على موقفهم.
بيد أن التوصل إلى مثل هذا الخيار قول أسهل من فعل، لذا لم تتمكن إيران والولايات المتحدة من ايجاد حلول لنقاط الاستعصاء النهائية التي تحول دون العودة إلى الاتفاقية، والتي تشمل تبادل الأسرى والحصول على ضمانات رسمية بعدم انسحاب الولايات المتحدة مجدداً من الصفقة بشكل مفاجئ، ثم جاء الموقف الروسي فعطل الإجراءات وتبعه الهجوم الصاروخي الإيراني في 13 آذار على أربيل ليزيد 
المفاوضات تعقيداً. 
كان توقيت الحرس الثوري لهجومهم مثيراً للريبة بالتأكيد رغم غياب الصلة الصريحة بينه وبين الصفقة النووية، فالغرب يدرك جيداً   أن إيران قادرة على ارباك وتعطيل مصالحه في الشرق الأوسط وخارجه حتى بدون أسلحة نووية، لذلك رسخ هذا الاستعراض لقدرات إيران الصاروخية الاحساس بأهمية التوصل  إلى صفقة معها. بوصول المفاوضات  إلى مثل هذه المرحلة الدقيقة يصبح بوسع أي مفاجأة جديدة أو تصعيد القضاء على جهود أشهر من العمل وخصوم بايدن ومنتقدوه لن يتركوا مثل هذه الفرصة تفلت دون أن يستغلوها. 
قال نتانياهو: “هذه الاستماتة وراء توقيع اتفاقية نووية مختلة مع إيران ليست سخيفة فحسب بل هي في منتهى الخطر، لأنها سترفع العقوبات وتتيح لهم مئات المليارات من الدولارات كي يواصلوا إرهابهم هذا الذي شنوه بالأمس ويشنونه كل يوم في كل مكان من الشرق الأوسط والعالم .. ألم نع واقع الأمر بعد؟”
أجل .. ضربات الحرس الثوري تشهد حقاً بأن إيران قد ازدادت جرأة ورغبة في الاقتصاص من أعدائها مباشرة بالصواريخ الباليستية.               
           
آدم لامون/عن موقع 
“ذي ناشنال إنتريست”