وجد كل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب نفسيهما في مفترق طرق بين موروث شعري بنيَ على قواعد صارمة، وبين أدب عالمي تفاعل مع حركة الحداثة عبر مجموعة من الحركات التجريبية والتطويرية ليبلغ مرحلة التحرر، وبين مناخ عام يضغط باتجاه التجديد في مختلف المجالات، وبين تفاقم الحاجة للتعبير بالطرق التي تنسجم مع الذات الشاعرة، التي بدا العمود يضيق برؤاها الجديدة وصورها وأخيلتها، بحكم ما طرأ على حياة الإنسان من متغيرات وعلى تركيبته النفسية من تعقيدات، لقد كان التجديد استجابة طبيعية، فعبر التاريخ كانت تتهيأ للشعر مواهب فذة تكون على صلة عميقة به تتعامل معه بوصفه همّاً وجودياً وليس صناعة أدبية، تتحسس خموله وتململه وعجزه عن التعبير عمّا تمور به الذات، بل إنَّ الموضوعات الجديدة والرؤى الإبداعية المغايرة تحتاج إلى قوالب تعبيرية جديدة، فضلاً عمَّا يتوفر لتلك المواهب من اتصال حضاري وتأثر بالثقافات الأخرى وبإيقاع العصر وهمومه ومشكلاته ومناخاته، وهذا هو السياق الثقافي الذي ولدت فيه ما يسميه بعض النقاد بـ” الموجة الأولى للحداثة” في هذه الحاضنة الثقافية ولد ما سمي بـ”الشعر الحر” مجازاً أو مغالطة إذ اتفق غالبية النقاد والدارسين على عدم دقة استعمال المصطلح مع ذلك نستعلمه لنعني به تلك الموجة التي لم تكن عابرة ولم تكن عارمة، إنما اختارت طريق التوازن في علاقتها بين التراث والمعاصرة، فلم ترضِ طموحات الحداثيين كاملة ولكنها فتحت باباً للحداثة، ولم تثر غضب التقليديين وإن أزعجت بعضهم، لأنها دافعت عن روح العمود الشعري وسماته.
توقف الناقد (غالي شكري) عند تجربة الرواد ليرى “في شعر السياب والبياتي ونحت سليم وقصص التكرلي بذور المعادلة الصعبة، الانتماء المغترب من ناحية والتراث المعاصر من ناحية أخرى”، وكتب (فاضل العزاوي) في رسالة له من السجن بشيء من الانفعال “أنَّ الشكل البدائي للقصيدة أو اللوحة لم يعد قادراً على استيعاب انفعالاتنا وتجربتنا الحضارية الجديدة في عالم متأزم، ولهذا بدأت أضجر من قصائد السياب ونازك، دون أن أنكر دورهما التاريخي” ورأى (سامي مهدي) أنَّ الرواد لم يستفيدوا استفادة معقولة من عملية التخلص من نظام الشطرين، فلم يعطوا الحداثة حقها، بينما عزا (عبد الرحمن طهمازي) ثبات الشكل عند الرواد إلى “ما تحملوه من (ضرائب الريادة) ومتاعب الدفاع عن الشكل الجديد وحرص الشعراء على تثبيته خوفاً من أن يهرب من سيطرتهم” وذهب (فوزي كريم) إلى أنَّ “حداثة” جيل السياب بقي أسير الرؤيا الشعرية التقليدية، إذ لم تحمل قصائدهم أصداء القصيدة الجديدة وليدة العصر الجديد التي يراها متجسدة بصوت “أدونيس” وتجربة مجلة “شعر” منطلقاً من المفهوم الغربي للحداثة، وقد يصح هذا القول إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الاستعمال غير الدقيق لمصطلح “الشعر الحر” وهو المصطلح الذي ينطبق بصورة عامة على قصائد (أدونيس، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وجبرا ابراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط) وغيرهم، لكن هذا لا يعني انعدام عناصر الحداثة في تجربة الرواد، سواء أكان ذلك بوصف الحداثة آلية للتجديد والمغايرة في سياق ثقافة معينة لها خصوصيتها التاريخية والنفسية، أم بمحمولاتها الغربية، اللّهم إلا إذا اختزلنا الحداثة، بحسب المفهوم الغربي، إلى مجرد نزعة واعية لمركزية العقل ونبذ اللاهوت، فبهذا المعنى يكون (أدونيس) رائد الحداثة العربية، ونرى أنه لا مبرر من تحديد معنى الحداثة على ضوء نظرة غربية واحدة من دون النظر إلى اختلاف السياقات الثقافية، فقد استعملت كلمة “حداثة” في الثقافة الغربية عموماً “مرادفاً للرومانسية، واستعملت كذلك في وصف الأجواء العامة للأدب الأوروبي في القرن العشرين واستعملت من جانب آخر في وصف حركة جارفة معينة غطّت الحضارة الأوروبية” كما يقول مالكم براد بري وجيمس ماكفرن في كتابهما الشهير(الحداثة) إلى درجة أنَّ “الحداثة” استعملت وصفاً عاماً للقرن العشرين، وعلى العكس من (فوزي كريم) يصيغ (د. عبد الله الغذامي) فرضية تقول “إن كان السياب مع نازك يمثلان مشروعين في كسر عمود النسق الفحولي والتأسيسي لخطاب جديد، فإنَّ نزار وأدونيس سيتوليان إعادة الروح للنسق الفحولي بكل سماته وصفاته الفردية المطلقة والفحولية التسلطية”، وهذه النظرة لا تقل في أحاديتها وانتقائيتها عن نظرة (فوزي كريم). وللحديث
صلة...