درسا الفنّية والنشيد.. خيال غائب عن أطفالنا

ريبورتاج 2022/04/04
...

 صفاء ذياب: البصرة
 
حين تسأل أيَّ أديب أو فنّان أو مثقف أو قارئ يعرف ما معنى القراءة، عن أسباب هذه التحوّلات التي طرأت على حياته، والاهتمام بالفن أو الأدب أو القراءة، سيجيبك حتماً أن هناك خطين مهمّين أثّرا في طفولته: درس التربية الفنية، ومكتبة المدرسة، فهذان العالمان كان لهما تأثير مهم في حياة أغلب المبدعين؛ عراقياً وعربياً وعالمياً، وبالتأكيد كان للبيت وأجوائه التأثير الأشد وقعاً، غير أنَّ هذين المؤثّرين لا يمكن أن يشكّلا نقطة تحوّل في حياة الطفل أو الفتى، إلَّا إذا كانت هناك بيئة ثقافية عامة تسهم في تأسيس وعيه المبكّر، فالمدرسة والبيت والشارع مثلث لا يكتمل إلَّا إذا اجتمعت أضلاعه الثلاثة.
هذه المؤثّرات أخذت اتجاهات عدّة عبر العقود الماضية، فلم يعد لدرس التربية الفنية وجود حقيقي، فكلَّما كان يأتي موعده يدخل على الطلبة مدرس الإنكليزي أو الرياضيات أو غيرهما من العلوم، فهدف المدرسة ليس تخريج طالب سوي له معرفة بالحياة وفنونها، بل أنْ يكون مجرّد ذاكرة خاوية لا تهمل كل صغيرة وكبيرة، وكأنه آلة تسجيل وليس إنساناً يحمل عقلاً يحتاج للجمال مثلما يحتاج للعلم.
وهنا يمكن أن نتساءل: ما الذي أثّر فيه غياب درسي التربية الفنية والنشيد من مدارسنا الابتدائية والإعدادية؟ وكيف اختلفت أذواق أطفالنا وفتياننا بسبب هذا الغياب؟.
 
مناهج قاصرة
يجيب مدرّس التربية الفنية، الأستاذ جابر حجاب، أنَّ غياب درس التربية الفنية والدروس المهتمة بإبداع التلاميذ عن المشهد التعليمي، إلَّا في بعض التجارب النادرة المضيئة والمنفردة، يتحمّل أعباءها كادر المدرسة، ومثل هذه التجارب لا يمكن القياس عليها عموماً، بل من الإجحاف حقّاً لوم الكادر التدريسي دائماً على غياب هذه الدروس، فطرق التعليم لدرس التربية الفنية في مناهج وزارة التربية تعدُّ متخلّفة، قاصرة عن مواكبة تطوّر هذه المادة تحديداً لما لها من ارتباط مباشر ليس في تنمية مهارة الطالب فقط، بل يتعدّاه لتنشيط مدارك ذهنية ونفسية ممكن اكتشافها مبكّراً لدى الطلبة، لاسيّما لدى التلاميذ دون العشر سنوات من أعمارهم أو ممّن يعانون من الخجل ومشكلات في النطق، فهو بالنسبة لهم وسيلة للتعبير عن النفس وأداة تشغلهم عندما يشعرون بالملل وطريقة لإيصال أفكارهم إلى الآخرين ومصدر للمتعة والثقة بالنفس، ولهذا لا نبالغ إن قلنا إنَّ درس التربية الفنية لا يمكن فصله عن أي درس إنساني أو علمي آخر في المدرسة، فكل هذه المناهج الحديثة اليوم تبتعد عن ثقافة التلقين وتقترب من تحفيز الذهن للطالب ودعوته إلى الابتكار، ولهذا أصبح اليوم درس التربية الفنية يحتاج إلى مختبر فنّي مزوّد بكافة الوسائل التعليمية التي يحتاج إليها هذا الدرس وعلى أستاذ هذه المادة ومعلّمها أن يكون مهيَّأً ومتعلّماً لجميع المناهج التربوية الفنية الحديثة في دراسته الجامعية قبل دخوله معترك تعليم الطلاب والتلاميذ، فمدرّس أيّة مادة اليوم لا يستطيع العمل وإيصال المعلومة بمفردة من دون وسائل التعليم وتقنيات العرض.
عدم توفّر كلّ ذلك في الجو المدرسي من المعوّقات الرئيسة وغير المشجّعة لبناء القدرات وتنمية المواهب الإبداعية لدى الطلبة، وفي الوقت نفسه يتوهّم الكثير من المعلّمين والأساتذة أن استخدام بعض الأساليب التعليمية يعوق التعبير عن الأفكار لدى التلاميذ ما يجعلهم يتخلّون عنها حتّى يسايروا أقرانهم ومدرّسيهم، فتنغلق عند هذه النقطة قدرته على تطوير ملكات التخيّل لديه وتنعدم قدراته على التفكير الأصيل وعلى خلق ارتباط بينه وبين بيئته من خلال مشاعره 
الشخصية.
 
استلاب المخيّلة
ويشير الفنان الدكتور حسين نجار- ومدير ورشة الغدير لتعليم فن الرسم- إلى أن المدرسة تعدُّ من أهم الركائز التي تؤثّر في نشأة المجتمعات وتطورها، لكونها حلقة مكمّلة للدائرة الثقافية في بنائها المعاصر، إذ شكّلت مادتا التربية الفنية والتربية الرياضية إحدى أهم اللبنات الأساسية لهذه المنظومة التربوية المعاصرة في المدارس العراقية منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة، وإلى هاتين المادتين ترجع تربية الذائقة الجمالية لدى الطلاب، وتنمية خيالاتهم، فضلاً عن اكتشاف مواهبهم مبكّراً وتوجيهها بالشكل الصحيح من قبل معلّمين معدّين بشكل تربوي جيّد، كما شكّلت هذه المواد عامل ترفيه ومنافسة خارج نطاق الدرس النظري، لذا يمثّل الاستغناء عنهما استلاباً لمخيّلة التلاميذ وإزاحة للجوانب الإبداعية والمهارية التي تسهم في بناء وتنمية شخصية الطفل، وتحوّله إلى مجرّد ذاكرة لمعلومات ورقية بأدوات تربوية تخلّى العالم عنها منذ عقود، وعليه  من الأجدى تدارك انهيار النظام التربوي من خلال الاطلاع على النظم التربوية المعاصرة اعتماداً على مادتي التربية الفنية والرياضية كحجر أساس لإعادة البناء التربوي.
 
اغتراب الطالب
ويشير الفنان والأستاذ الدكتور كاظم نوير إلى أنَّ درس التربية الفنية من الدروس الأساسية في بناء الشخصية لاسيّما من الجانب النفسي والوجداني، وغيابه يؤثّر في بناء الشخصية، فضلاً عن ذلك فإنَّ الطالب سيغيب عنه جزء أساس من بنية الشخصية وعلاقاته الاجتماعية والمهنية في المستقبل التي تتأثّر بطبيعة العلاقة مع الصور والأشكال والعلامات الفنية والبصرية التي نتعامل بها يومياّ. مضيفاً أنَّ غياب درس التربية الفنية يعني غياب جانب مهم من المعرفة التي تدخل في جوانب يتعامل معها الطالب وتبني مخيّلته مثل الخيال الصوري المتعلّق بالهندسة والتصميم والحاسوب والخيال الذي يحتاج له الطالب في المواد العلمية مثل الفيزياء والكيمياء... غياب الفن يعني إيصال خطاب قد يكون خطيراً وهو إبعاد الجانب الإنساني والوجداني من الحياة الإنسانية ودفع الطالب إلى الاغتراب...
 
ركام التخلّف
وبحسب الدكتور ماهر الكتيباني، أستاذ المسرح في كلية الفنون الجميلة، فإن لدرس التربية الفنية أهمية لا يدركها إلّا أبناء الجيل الماضي أيام كانت المدارس تعجُّ بالنشاطات الفنية والرياضية، وتقام لها مسابقات ومهرجانات، تلك قطعاً تمنح فرصة للذات في أن تستنشق عبق الفنون وتجعل منها مادة لترطيب أجواء الدرس الجاد في مواد أخرى، إذ تسهم في تنمية النشاطات وتغذية المواهب بما يعزّزها بالخبرة، ويمكن إضافة المسرح المدرسي الذي يصهر تلك الفنون في كيانه، ويدفع للمنافسة ويمنح بعداً ثقافياً وإنسانياً عاماً ينعكس على السلوك وحسن التعامل، بل المزيد من الطاقات التي تمنح الحياة فرصة للجمال، ومن واقع التجربة التي عشناها في السبعينيات من القرن الماضي، وجدنا أنَّ للموسيقى والرسم والمسرح والرياضية قدسية وهالة، بل تحدث سروراً للذوق والنفس لا يمكن التعدّي عليه، فهي التي ينتشي فيها الذهن وينشط الجسم وتتحسّن إمارات الرؤية وتتسع آفاق المعرفة والوعي، ونجد ذلك في الرقي الشامل للفنون ومدارسه والمسرح وأساتذته، ويكون مصدر سعادة كامنة للأهل لا سيما في ما يقدم إبان اجتماع الآباء والأمهات. النظرة الموضوعية الحصيفة تدفع المسؤولين إلى العمل على أن تعود لهذه المواد حصانتها، وذلك يتطلب المزيد من الوعي بضرورتها، فهي قادرة على مسح ركام التخلّف وتبني إنساناً جديداً ينسجم ومتطلّبات الحياة 
المعاصرة.
 جيش المبدعين
ويرى القاص والروائي زيد الشهيد، أنَّ الفنُّ الصّوري شكَّل منذُ أن وعى الإنسانُ ونظرَ لما حولَه حفراً وجودياً أرّخه بحبِّه للجمالِ وإنتاجه رسوماً تُمتِّع الذائقةَ وتهذِّبُ النَّفس، ومعه كان للصوتِ المُنغَّم، تأثير لا يَقل عن تأثيرِ العين الباصرة، فراحَ البشريُّ يُعبّر بالصوتِ إلى جانبِ الصورة؛ فنشأت جرّاء ذلك ذائقةٌ أصبحت مَثارَ اهتمامِ مَن نادوا بارتقاءِ الوعي الإنساني إلى مَصاف الهَناء والسلام ونبذ التسلُّط والاستحواذ والهيمنة. 
وكان مَن تلقّى النداءَ الرموز الثقافيةُ والفلسفيةُ ومَن نظروا إلى الحياةِ على أنَّها جمالٌ لا قبح، رُقي لا تقهقر، فاندفعوا يَضعون مادتي الرَّسم والموسيقى مواد أَساسيّة في تنشئةِ الأجيال النشأةَ السامية، لا تختلف عن موادِّ القراءة والكتابة، الرياضيات والعلوم.
وبهذا أصبَح مقياسُ تطوّرِ الأمَمِ في تطوّرِ فُنونِها وآدابِها إلى جانبِ علومِها.
ومَن يُطالع صفحات كِتابِ التأريخِ الإنساني اليوم سيَجد أنَّ هذا التأريخ لم يزدهِ ويفْخَر إلَّا بأسماءِ الخُلّاق من فنانينَ تشكيليين كلـ”ليوناردو دافنشي” و”مايكل انجلو”، و”مانيه” و”مونيه، و”رينوار” وجيشٍ جرّارٍ من مُبدعين توهجوا نُجوماً في سماءِ ليلِ الإنسانية.
هذا إلى جانبِ موسيقيين زيَّنوا فضاءَ الطبيعة بعَذبِ أنغامِهم التي تسمو بالرّوحِ الإنسانيةِ إلى مصاف البَهاء والألق؛ كـ”بيتهوفن”، و”موتسارت”، و”فاغنر”، و”باخ” وكورالٍ لا ينتهي من الموسيقيين العِذاب.
 
واجب إبداعي
ويختتم الشاعر الدكتور أحمد ضياء حديثنا مبيناً أنَّه في ظلِّ تدهور كلِّ شيء، هناك توجّه لهدم الحس الجمالي للأطفال، لكسر عنق الفن والتنمية.
تسعى المدارس الآن إلى تهميش درس الفنية، هذا الدرس الذي يعد منبعاً رئيساً لنشوء العديد من المواهب، التي تنمو كما تنمو الزهرة، ولعلَّ غيابه يمثّل عائقاً أمام تحديدات الواقع المرير، فعبره نستيقظ بروحنا الوطنية ونستطيع توفير دعم معنوي للجيش مثلاً عبر رسم لوحات طفولية تعبّر عن حبّهم، ومثل هذه الروح النضالية ترصد التغيّرات الحادثة.
ما تغييب درس الفنية أو النشيد إلّا تغييب لوعي الطفولة واللبنة الأساسية المعنية بالتنشئة.
وهذا القصور بهذا الدرس جعل الأذواق متباينة بين الأطفال حتى بنسبة تلقّي التعليم، ممّا يعني عتمة جديدة في فضاء الحياة الموحشة بلا فن.
موضحاً: يجب على المدارس إعطاء درس الفنية والنشيد أولوية في المدارس حتى نستطيع النهوض بواقع تربوي فيه الفن وفيه الرياضة وفيه العلم، ولعلَّ سبب هذا التهاون من الأستاذ عينه، فيجب أن يدافع عن درسه وأن لا يعطيه لأيِّ أستاذ آخر، حتى يستطيع تأدية واجبه الوظيفي والإبداعي.