السلال الممتلئة

العراق 2022/04/06
...

أحمد عبد الحسين
حين دفعوا الثائر الفرنسيّ جورج جاك دانتون إلى المقصلة قبل لحظات من إعدامه، رأى رؤوس رفاقه الثوّار في سلّة كبيرة، وأيقن أن رأسه سيكون فيها قريباً، كان لا بدّ له من كلمة أخيرة، نطق بها وأصبحتْ خالدة حتى اليوم، قال: الثورة تأكل أبناءها.
الذين نجوا بالصدفة من بنادق السلطة تلاقفتهم سريعاً مقاصل زملائهم. وليست الثورة الفرنسية وحدها التي قضى فيها الثوّارُ على الثوّار، بل يكاد يكون هذا الأمر سنّة من سنن الثورات، ولا أعلم ثورة قديمة أو جديدة إلا انشغل الناجون منها بقتل بعضهم البعض، قتلاً جسدياً أو رمزياً في أحسن الأحوال.
للمحايد والمؤرّخ والباحث ليست الثورة سوى حدث، واقعة تقطع تسلسل الوقائع بهيجان جماهيريّ غاضب، لكنها عند أصحابها والمؤمنين بها فكرة طهرانية صافية نظيفة يمكن لأدنى هباءة من غبار أن تخدش بياضها. والطهرانيّة عملٌ لا ينتهي، ليس لها أمد تقف عنده، إنها دائماً تبحث عن الأطهر فالأطهر وتزدري الأقلّ. وكلّ تطبيقٍ للفكرة هو أقلّ بكثير من الفكرة ذاتها. هي كالإيمان عند المؤمن يرى كل الموحّدين أخوته لكنهم أدنى رتبة من المسلمين الذين هم أخوته لكنهم أدنى رتبة من أبناء طائفته الذين هم أخوته أيضاً لكنهم أدنى طهرانية من مقلدي مرجعه الذين هم أخوته لكنهم أدنى ممن هم في مسجده، وحتى الذين يقفون في الصفّ الأول للصلاة معه فإنّ بعضهم أكثر طهرانية من الآخر. أتذكر الآن حواراً في مسرحية، يقول أحدهم لصاحبه: "الناس غريبو الأطوار يا صاح إلا أنا وأنت"، ثم يلتفت إلى صاحبه قائلاً: "وحتى أنت أكثر غرابة مني"! 
كل نتائج الثورات مخيّبة للآمال إذا ما قيستْ بالطهر الذي كانت عليه في قلوب ورؤوس الفتيان الثوّار، ولذا فإنّ نقمتهم على رفاقهم "الأقلّ ثورية" ستماثل نقمتهم على السلطة، لأن الجميع أفسد براءتهم التي كانت تعدُ بالمستحيل. الثورة عمل المجموع، عمل نبيلٌ ولا شكّ، لكنّ المجموع لا يفكّر ولا يتدبّر، فالتفكير والتأمل سمتان للفرد لا للمجموع، ولذا فإنّ الأفراد الذين فكّروا وتأملوا وتدبّروا وأرادوا إنزال الفكرة من عليائها إلى الأرض أُنزلت رؤوسهم في السلال مع رأس دانتون. ومنذ ذلك الوقت وإلى آخر الزمان، تمتلئ السلالُ برؤوسٍ ليست أقلّ ثورية، لكنها مرّغتْ طهرانية الثورة وصفاءها بتراب الواقع.
وهذا إيجازٌ يليه ما قد يليه ..