أحمد عبد الحسين
وسائل التواصل الاجتماعيّ لا تنشئ حواراً. غيابُ الحضور الحيّ وإمكانية التخفّي والاستتار والاكتفاء من المسمّى باسمه والأداء البرقيّ الذي يتطلب جملاً مختصرة قويّة لا استفاضة فيها ولا تحليل، كلّ ذلك جعل من فيسبوك شاشةَ عرضِ مواقفَ لا محلَّ تحاور.
مواقف متعلقة بقضايا كبرى، تؤدّى هنا بأقلّ الكلمات، بل من دون كلمات إذا لزم الأمر، بالصورة والإيموجي، وبالسخرية دائماً فهي أمضى وتعطي أثراً فورياً في سجال المناكفة الذي هو محصول السياحة في فيسبوك. فالفيسبوك ليس للقراءة بل للسياحة إذْ كلّ بوست يدعوك إلى الانتقال منه سريعاً، وبمعرفة موقف صاحبه تكون قد اكتفيت منه من دون حاجة لتفصيل ممل.
في المناسبات السنوية للأحداث تعاد التعليقات ذاتها، بالإيموجيات ذاتها، جملاً سريعة ساخرة أو غاضبة، برقيّات يراد لها أن تكون ذكيّة ومؤثرة، غير أن فيها عيبين قاتلين: تكرارها حدّ الملل، وقدرتها على خلق كراهية.
سكّان فيسبوك في المناسبات السنوية يجدون أنفسهم وقد اصطفوا في خندقين متقابلين استعداداً لحربٍ يعرف الجميع أنها لن تحدث. فهي خالية من الموضوع، ولا شيء جوهرياً فيها. ربما كان هذا تقليداً عربياً مغرقاً في القدم، فقد قيل أن حرب داحس والغبراء ومثلها حروب العرب قبل الإسلام لم تكن بالسيوف ولا بالرماح، كانت استعراضاً بالشعر والأراجيز، مشاهد تمثيلية يحمل فيها الناس العصيّ وسعف النخيل، حتى أن أحداً لم يمتْ فيها خلال أربعين سنة إلا رجلاً هلك بسبب حرّ الشمس في الهاجرة!
منذ أمس تخاض حرب داحسيّة غبرائية حول التاسع من نيسان، هل هو تحرر أم احتلال، وهل نريد ذاك الزمان بمدحٍ أم نذمّ هذا الزمان، بحسب تعبير المعرّي؟ وهذه القضية، ككلّ القضايا الكبرى، واسعة وتحتاج استفاضة وتحليلاً لا يتلاءم مع مزاج ومعرفة الفيسبوكيين الذين يريدون الوصول للموقف من دون المرور بكتابة. نحن لا نقرأ، نحن نسجّل مواقف!
قالت الراحلة الكبيرة زها حديد يوماً “هناك 360 درجة، فلماذا التمسّك بواحدة فقط؟”. وقد حدث في مضاربنا الالكترونية أن ترك الإنسان الرحابةَ والاتساع والتأمّلَ الحرّ والرأي المستند إلى تفصيل وحشر نفسه ومعرفته في جحر صغير طلباً لمتعة المناكفة
التي لا تماثلها متعة.