لغة جديدة

العراق 2022/04/12
...

أحمد عبد الحسين
 
لا أحد أكثر يقيناً من المتديّن. في الدين، أيّ دين، نواة صلبة تكسِرُ أو تُكسَر ومن شأنها استبعاد صنوف التشكيك والمداورة وتقليب الرأي على وجوهه إلا من باب توكيد الرأي المسبق والمصادرة على المطلب، وليس هذا سبّة أو خللاً لأنّه عينُ معنى التعبّد والتسليم، وهو سائرٌ في كلّ الأديان، كما أنه لا يعني "استقالة للعقل" بتعبير الجابريّ، بل استخدام العقل بطريقة تخدم مقولات بعينها وبأداءٍ تضافرتْ شواهد التاريخ على فاعليته.
بسبب هذه الفاعليّة، اطمأنّ المتديّنُ لا إلى يقينه وحسب، بل إلى اللغة التي يؤدي بها ذلك اليقين، وتسرّبت ثقته بالمقولات إلى الخطاب الذي أصبح هو الآخر وثوقياً. وها أن لغة الدين تكاد تكون واحدة منذ البعثة إلى اليوم، خطاباً ناجزاً وقولاً نافذاً جازماً وقاموساً محدوداً تمتلئ به الكتب قديماً والفضائيات حديثاً.
كان ذلك الأمر مستساغاً بل ناجحاً في زمنٍ كانت السلطة الرمزية للكاتب وكتابه لا تدانيها سلطة، وكان الكتّاب يتبارون أيّهم أقدر على تدوير هذا القاموس المحدود لصنع أقاويل أغلبها مواعظ وحِكَم. أما اليوم فإنَّ الكتابة متاحة للجميع والفضاء على اتساعه المدوّخ جعل الجميع يتحولون إلى قرّاء وكتّاب رغماً عنهم، وتغيّرتْ لغةُ كلّ شيء من الأدب إلى العلوم إلى السياسة إلا الدين؛ وثوقية أصحابه منعتهم من تجريب لغة جديدة.
ثم يشتكي رجال الدين بعد ذلك أنَّ كلامهم لم يعد مؤثراً، وأنَّ مواعظهم وأمثولاتهم فقدتْ قوة سلطانها على النفوس، وأنَّ الناس لا تتغيّر. يفوتهم أمر خطير وهو أنَّ من يغيّر لغةَ مجتمعٍ هو وحده القادر على تغيير هذا المجتمع. ففي آخر الأمر ليست اللغةُ أداةَ إيصالٍ وتواصل، بل هي كشفُ حسابٍ لما يستطيعه مَنْ يتكلّم بها. والخطابُ بمفرده قادرٌ على إيضاح قوّة المخاطِب أو هشاشته، غناه وتفرّده أو سطحيته ومحدوديته. وهكذا في الشعر كما في الأدبيات السياسيّة والمقال الصحفيّ والخطبة الدينيّة لا شيء قيّماً وفريداً ومؤثراً ما لم يكنْ مؤدّى بلغةٍ فريدة مبتكرَة.
لا أهمية للمواعظ ولا للنصائح أو إيراد قصص الغابرين وحكاياتهم. من يُردْ تغيير الناس فليغيّرْ لغته أولاً.