ياسين النصير
حقلان كبيران يشتغل عليها المكان، وهما الجغرافيا والجيولوجيا، ونتيجة اهتمامي النقدي والفلسفي بالمكان جعلني ابحث عن المصطلحات والمفاهيم التي تعين العامل الذي يشتغل نقديا مع الفنون المكانية والفنون الزمانية. الجغرافي هو مساح الأرض،أي الذي يتعامل بفهم مع سطح الأرض، ليعلّمه بخرائط ومحددات، تعين مدى العلاقة بين المواطن والأرض، كما يعين من جانب آخر
اقتصاديات الجغرافيا، وتنوع محاصيلها، إضافة إلى ارتباط ملكية الخريطة بمالكها، وهذا التحول الذي بدأ أو الأمر في انجلترا في اوليات القرن الخامس عشر حينما أمرت المملكة بوضع خرائط لجغرافيا الأرض البريطانية، لتوزيعها على من يشغلها، شعر الفلاحون ومستغلو الأرض انهم اصبحوا ملاكًا لارض يستثمرونها، وبالفعل تملكوا الارض التي زرعوها، لتنتشر الظاهرة الخرائطية إلى بقية أوروبا، ليصبح ثمن الخريطة لاحقًا، أي في القرنين السابع عشر والثامن عشر باثمان مرتفعة جدا، فالخارطة لم تحدد الأرض، بل حددت هوية الفلاحين وارتباطهم بالأرض، واصبحت كلمة التملك سندا.
الأمر الذي مهد للاستعمار البريطاني أن يعمم تجربة خرائط الأرض على بقية البلدان التي احتلها ومن ضمنها العراق.هذه البنية الخرائطية للمعرفة، كانت المزيّة المهمة التي تجعل الملك أو الأمير مهيمنا على الناس، وكان من يسند الهيمنة رجال الدين، بعد ان يضيفوا لملكية الأرض ملكية الروح الجماعية للشعب. وكما يقول شاترليه: “ ان جسد الملك أو الأمير يمتد في ممالكه الجغرافية، وإذا اقتطع جزء من هذه الممالك اقتطع جزء من جسد الأمير “. وقديما قال هارون الرشيد مخاطبًا الغيمة” أينما تمطرين فسيكون ريعك في ارضي”.
أما الجيولوجي فيهتم بطبقات الأرض، بحفرياته العمودية التي تستكشف الطبقات والحيوات الكائنة فيها، ومعرفة نوعية صخورها وتربتها وتاريخها ومدوناتها، وفلسفيا نجد هذه الطبقات مؤشرا على التاريخ، واعمال الإنسان، كما هي مؤشر على تركيب الأرض وما فيها من حيوات مختفية في ابعادها، ومثيولوجيا تعني تلك الطبقات التي تحاكي الأعماق النفسية والاجتماعية للإنسان، مشفوعة بالزمن الماضي وبتراكم الخبرات وتاريخ الأقوام القديمة، وثمة محو دائم لما يكون حاضرًا، إما بفعل التعرية أو التقادم، وقد انتبه علم النفس والأدب معًا إلى تلك الاصقاع البعيدة عن السطح الحياتي اليومي للناس، وعلمها بالتراكم والاختباء والتخفي والاثر القديم، وضمنها لغات وموروثات وصناعات وآثار الأقدمين، لتسحب الدراسات الى أن ما يحدث على هذه الأرض هو تاريخها وصورتها وابعادها وثقافتها وتكويناتها، وكل ما يتصل بوجودها. هذه الحفريات استعيرت للمعرفة، كما استعيرت لعلم النفس، وللفهم العلمي لما يكون عليه فعل الزمن في تنظيم العلاقة بين الإنسان مع حاضر المكان ومستقبله.
النص الأدبي جغرافيًا نصٌ قائم في الحياة، شأنه شأن الأرض كما يشير هايدغر للأرض في العمل الفني، ويتطلب النص الأدبي خرائط تعين وتحدد مجالاته، وحدوده الداخلية التي تشكل مفاصل بنيته اللغوية، وحدوده الخارجية التي تبين علاقاته وتناصاته ومرجعياته، ومن ثم تمنحه تاريخية ما لأنه أصبح مادة مباشرة بمواجهة العالم، من هنا، وفي ضوء الهوية والعلاقة والتاريخ،يصبح النص فضاءً. ولذلك يتطلب في المرحلة الثانية من معالجته، مفردات البعد الجيولوجي، والبعد الأركيولوجي لمعاينة طبقاته من خلال الحفر المعرفي فيه، فللنص طبقات منها ما يباشرنا عبر اللغة المكتوب بها، ومنها ما هو غير مباشر يتمثل بمستويات الكلام الذي يختفي وراء اللسان اللغوي، ومن مستوياته العميقة المختفية ما يرتبط بالبنية العميقة للغة حسب تشومسكي، ولأنه نص قابل لقراءات مختلفة، سيكون سطحه وأعماقه ،ما هو معلن فيه، وما هو مختبئ بين شقوق كلماته وصوره، ميدانًا للحفر الجيولوجي والاركيولوجي والفيلولوجي، وهي حقول إثراء وليست حقول اتكاء، ففي أي نص يكمن جزء من عالمنا الغامض، خاصة ذلك الجزء الذي يرتبط باللاوعي الذاتي والجمعي، وهو الميدان الذي سخرت علوم النفس وعلوم الاجتماع آلياتها للكشف عنه.