حازم رعد
لا يجافينا الصواب لو قلنا إنَّ الفلسفة ليست غريبة على الإنسان فهي في جوهرها نتاج تأملاته وأفكاره التي تتولد على شكل قناعات ورؤى عن ذاته «أنْ يعرف نفسه» ومواقف ازاء الكون والوجود وتصورات عن مصيره وطريقة العيش الراغب فيها وإنْ بدت تلك الطريقة عند البعض من الأفراد ساذجة في بعض لحظاتها نتيجة السطحية في التفكير.
وهنا طالما أنَّ الإنسان [يمتلك العقل فهو يتميز بالروح الفلسفية، والروح الفلسفية هو رغبة في البحث، دائماً في حالة تساؤل لا يبدو على وجهها أي أثر من آثار الإقناع أو الوصول الى حلٍ نهائي ومع ذلك فهي لا تتوقف أبداً] كما يقول محمد عبد المعطى محمد.
فكما هو معلوم فإنَّ الفلسفة في لحظتها «السقراطية» كانت أكثر شعبيَّة «منطق اشتغالها عمومي» بمعنى أنها قريبة من الناس ومتداولة في اليومي قد مارس سقراط الفلسفة على شكل جدل وحوارات مع المجتمع الاثيني في أمكنة عدة في الأزقة والشوارع والساحات العامَّة يطرح السؤال على كل من مرَّ به ولا توجد استثناءات في ذلك ما بين [أمير وقائد عسكري وما بين مواطن عارٍ من كل صفة] يرتجي من ذلك استشفاف إجابة {تقع في طريق بحثه عن الحقيقة} ثم يرد الإجابة تلك بسؤال آخر واستفهام آخر ليزعزع إيمان من يحاورهم بمسلماتهم و[هنا تكمن خطورة الفلسفة في محاولتها زعزعة الإيمان بالمسلمات المتجذرة] ويصحح الأغاليط التي كانت مستحكمة في الأذهان وتشكل ثقافة مجتمع برمته.
ولكن حال دون بقاء شعبية الفلسفة تحول خطابها كما هو حال كل مجالات الحياة الفكرية والعلمية والعملية التي يطالها تحول ما، فمع افلاطون وتأسيسه الأكاديميَّة وقد كتب على بابها [لا يدخل علينا إلا من كان رياضياً وفي ترجمة أخرى مهندساً].
أخذت الفلسفة منظوراً آخر وصارت نخبويَّة، وجدل تفضيل نخبويَّة الفلسفة أو شعبيتها قائمٌ حتى ساعتنا هذه، واختلف الأمر مع ارسطو، إذ علمنا أنَّ الفلسفة ليست إلا حصيلة دهشة الإنسان لأشياء الواقع والتفاته المملوء بالإعجاب إليها ينتج تأملاً وأفكاراً تشكل رؤية الإنسان وحصيلة فلسفته عن الواقع والأشياء.
يقول ارسطو [إنها الدهشة التي دفعت المفكرين الأوائل نحو التأملات الفلسفية] وليس ذلك فقط فاستمرار تلك الدهشة هو الشرط الهيدگري لاستمرار الفلسفة فخليق بالتأمل والتفكر بحثاً عن المعنى وكشفاً عن مجهول هو أدام التفلسف والدهشة بحسب هيدگر نزعة إنسانية لا يختلف فيها أحدٌ عن آخر.
الفلسفة نشاط نظري غريزيٌ ينعم به كل إنسان بلا تمييز مهما بدا في بعض حالاته ومغامراته ساذجاً وبسيطاً وكذلك عميقاً وجذرياً في حالات أخرى، إلا أنَّه إجمالاً نتاجٌ عقليٌّ في حدود {الفهم الإنساني ومدى سعة مدخولاته من الحس والحدس ومعطيات الخارج والواقع} وهي بمقاربة الفكر الديكارتي تكون الفلسفة ديمقراطية متاحة للجميع.
ومن المعلوم أنَّ نمو الفكر الانساني يبدأ من نقطة ويستمر صعوداً من خلال معاينة الواقع والاحتكاك بالأشياء وسعة الاطلاع وتزايد الخبرات فليس من إنسان ولِدَ وهو متوفرٌ على معرفة [صفحة بيضاء] كما يفترض فرنسيس بيكون.
النتيجة أنَّ الفلسفة ليست شيئاً آخر غير التأمل والتفكر والحاجة الإنسانيين، لكنَّ المهم والذي يؤسس في ما بعد لإشكالية ثنائيَّة (المتخصص والشعبي) هو احتياج ذلك الفكر الفطري «والبديهيات القبليَّة في العقل كما يعتقد ديكارت وكانط» والتي تنظم مدخولات العقل، وكذلك معطيات التأمل في سياق حركة الاندهاش تقوم بمعملتها بطريقة خاصة تنسق وتنظم وتمنهج تلك المخرجات لتؤطرها في قوالب منطقيَّة ومنهجيَّة «مفاهيميَّة» فالفلسفة في حدها صناعة مفاهيم لتظهرها بصورة أكثر فائدة وأجدر للفهم والتبرير والتعميم الى قواعد وقوانين صحيحة مترتبة على مقدمات يفيد منها الإنسان في تجربته الخاصَّة والعامَّة ويستعملها في ترتيب الواقع كأساسٍ نظري ورؤية كليَّة في ممارسة الحياة.
ومن هنا نفهم ما يقال (إنَّ كل إنسان هو فيلسوف أو متفلسف) لإدراكنا أنَّ الفكر والعقلانيَّة في السلوك والتأمل المستمر رديف الفلسفة أو التفلسف وهي جزء الإنسان المقوم (حيوان ناطق) فالنطق هو التعقل أي القدرة على الإدراك الواعي والمسؤول أو بتعبير كارل ماركس إنَّ [الناس كما ينتجون القطن فإنَّهم ينتجون المفاهيم والسياسة والقيم الأخلاقيَّة] فصناعة الفكر وإنتاجه جزء الإنسان وجوهره الأصيل، وهذا بحد ذاته يدحض مقولة إنَّ الفلسفة مقصورة على طبقة من الناس أو مختصة بنخبة معينة يقتل ثقافتها غلواء النرجسيَّة والتعالي على التاريخ.