خوان طعام فاخر

العراق 2022/04/24
...

أحمد عبد الحسين
بلغ الصراع السياسيّ عندنا مرحلة غير مسبوقة باتجاهين: خطورته على السلم الأهلي أولاً، وانكشافه واستعداد الجميع للعب أوراقه كلّها حتى المحرّمة منها. نتائج الانتخابات لم تكن مؤاتية للجميع، وهذا دأب الانتخابات في العالم عادة، لكنّ الساسة منذ 2003 قرروا مع أنفسهم أن يكونوا فائزين أبداً، لأنّ فوزهم المحتوم كان مشتقّاً من فوز مكوّنهم ذي الحمولة الرمزية الكبيرة التي لا تقبل أن تدانيها الهزيمة.
أن تكون ممثلاً لطائفة مثلاً وتستمرئ هذا الدور وتتلبسه ويسايرك جمهورك على هذا، فسينتهي بك المطاف إلى أن تصبح خسارتك خسارة طائفة، وهذا الأمر هو ما يجعل من قبول نتائج الانتخابات أمراً لا علاقة له بالديمقراطية وصناديقها، بل له مساس بهويّة دينية أو قومية أو مذهبية.
هذا الفهم يناسب السياسيّ تماماً. حين كان يفوز فإنه يفوز فرداً واحداً بامتيازاته وسلطته وحاشيته وحصانته وأمواله وعلاقاته، لكنه حين يخسر فإنّه يريد أن يفهم الجميع بأن أمة كاملة خسرتْ بخسرانه لأنه ممثلها.
الانتقال من التصرّف كفرد ذي منافع، إلى التصرّف كحامي حمى الهويّة، انتقال سهل لا يحتاج إلى كثير من الجهد، تكفي بضعة تصريحات حماسية وتنشيط جيوش الكتبة لإتمام الأمر على أكمل وجه.
الذات الإنسانية معقدة، تركيب غريب للغاية ولا يعرفها إلا خالقها. يمكن للإنسان أن يخدع نفسه بيسرٍ، أن يتوهّم دوراً ويصدّقه، وهذا الـ”أنا” ضئيلة وصغيرة بحيث يمكن أن تختبئ تحت قناع المصلحة العامة وتُحشر بين حرفين من حروف الهوية المذهبية أو الدينية المقدسة، لكنها من الضخامة بحيث يمكن أن تبتلع العالم.
كان الخليفة هارون الرشيد في جلسة من جلساته يتباحث حول أحقية بني العباس بالخلافة من سواهم وعن توخيه العدالة وطبيعة سياسته البلاد واستنانه بسنة الرسول وتبيان مثالب أبناء عمومته العلويين، حين وضع خوان الطعام الفاخر بين يديه، فقال لضيوفه مشيراً إلى الطعام: يريد موسى “ابن جعفر” أن يحرمني من هذا؟
هذا الانتقال السريع من كونه ممثلاً للحقّ والعدالة وخلافة الرسول إلى وضعه كفردٍ مشغول بمكتسباتٍ غاية في الضآلة كالأكل، لم يكن زلّة لسانٍ أبداً، إنه التفاوض الأبديّ بين الإنسان ونفسه وتضخيم شؤونه الصغيرة لجعلها شؤوناً مقدسة.
الأصل هو هذا في كلّ سلطة: خوان الطعام! وما حديث الهويّة وحمايتها والسهر عليها إلا إعداد ثانويّ نرفعه في وجه من يريد أن يمنع عنّا خوان الطعام الفاخر!