جنّة عدَم

العراق 2022/04/26
...

أحمد عبد الحسين
الكائنُ الوحيد المفسد في الكون هو الإنسان ولا أحد سواه.
العالم بمجراته وأفلاكه التي نعرف والتي لا نعرف متناغمٌ ويجري بتدبير مثاليّ، ومثله الأرض التي إذا ما تُركتْ لطبيعتها فهي تحيا بالتمام من الكمال، وجوداً لا تعتريه شائبة من فسادٍ لولا هذا الكائن الذي اجترح العدمَ وأدخله على العالم.
ميشيل فوكو أوجز القضية، قال: "الإنسان طارئ على الكون وهو الذي جلب النقصَ له وسينقرض ليعود العالم كاملاً".
 المفارقة أنّنا في غمرة بحثنا عن كمال نتوهّمه ونرغب به، نخّربُ كمالاً ناجزاً نراه عياناً. نغيّر من طبيعة الأرض، نقتلها استهلاكاً جائراً، نجفف الأنهار ونحرق الغابات ونتلاعب بالمناخ، ونحن في كلّ ذلك نتلف فردوساً حقيقياً من أجل فراديس متخيّلة.
أهوار العراق مذْ كان العراق وحده المبصر على كوكبٍ أعمى، كانتْ على حالها، جنّةً مملوءة بالماء والأساطير، فهي التي اخترقها أوتونبشتم بقاربه ليصل إلى الخلود، وهي التي أغفى كلكامش فيها فأضاع عشبته، وهي المذكورة في الكتاب المقدّس باسمها الأشهر "جنة عدن"، أراد ديكتاتور جاهلٌ أن يمحوها من الوجود، ونجح، ذلك أن أحلام الطغاة تتحقق بيسرٍ، لينقلب فجأة الفردوس إلى جحيم، ويصبح أرضاً جرداء هجرتها طيورها وحيواناتها النادرة، لا ترى فيها إلا قوارب منكفئة في صحراء كانتْ منذ الأزل ينبوع أسرار.
تجفيف الأهوار أقذر جرائم صدام التي لا تزال ماثلة، فالأهوار لن تعود إلى حالها ابداً، ما صنعته الطبيعة الفذة بصبرٍ وطول أناة على مدى ملايين السنوات حطمه بلمح البصر مخبول يظنّ ان العالم ابتدأ بمولده وسينتهي بموته.
في الصفحة الأولى من هذا العدد تقرير مخيف للأمم المتحدة تحذّر فيه العراق ودول الجوار من كارثة ستلحقهم جميعاً إذا استمر جفاف الأهوار على هذه الوتيرة.
تحذير دول الجوار واجب لأنهم يشتركون الآن في هذه الجريمة بقطعهم شرايين أنهار العراق وتعمّدهم جعل بلاد الرافدين بلا رافدين.
الأهوار تموت ببطء، ومن الواجب أن نصغي إلى نداء الأمم المتحدة باعتباره ناقوس خطر، قبل أن تتحوّل جنة عدن إلى جنّة عدم.