السينما... الأثرُ الحيُّ

الصفحة الاخيرة 2022/05/09
...

  محمد صابر عبيد
يوصف فن السينما لدى مؤرّخي الفنون بـ {الفن السابع} الذي كرّس قيماً جديدة ومبتكرة في التعبير وصوغ الخطاب القادر على التأثير في أوسع جمهور ممكن، وهذا الفن كبقية الفنون الجميلة المعروفة والمتداولة الأخرى له أدوات وتقانات وخصائص ووسائل تساعده في تقديم خطابه، وإيصاله إلى الآخر، وتحقيق الأثر المطلوب في مجتمع التلقي، فإذا كانت الفنون الأدبيّة تعتمد الكلمة وسيلة للتعبير وتشكيل الخطاب الأدبيّ.
وكانت الصورة الثابتة القابلة للمعاينة والتأويل هي وسيلة الفن التشكيليّ والفنون الصوريّة المشابهة، والصوت والجسد هما وسيلة الخطاب الدراميّ في فنّ المسرح لإيصال أطروحة النصّ المسرحيّ برؤية المخرج بعد الكاتب، فإنّ أدوات الفيلم السينمائيّ - بما تنطوي عليه من حراك تصويريّ مدهش ومتنوّع يحاكي الواقع تماماً ويمثّله- يقدّم لجمهور التلقّي ما يمكن وصفه بـ "الأثر الحيّ". 
تحتفظ المكتبة السينمائيّة بالفيلم السينمائيّ زمناً لا حدود له حين تنجح طُرقُ الحفظ بأساليب فنيّة حديثة أطول مدة ممكنة، وكلّما أُعيد عرض الفيلم بعد عدد من السنين يرى المتلقّي شبكة "الممثلين والأحداث والحراك السينمائيّ وأدوات الفعل السينمائيّ كما هي وكأنّ الحدث الفيلميّ يحدث الآن، وهذه قيمة استثنائيّة ونوعيّة باهرة تشكّل خطورة هائلة لهذا الفنّ قياساً بالفنون الجميلة الأخرى، فالأثر الحيّ له مقوّمات تتفوّق على تأثير الكلمة وتأثير الصورة الثانية وتأثير العرض الدراميّ المحكوم بقاعةِ عرضٍ ومسرحٍ وزمنِ عرضٍ وغيرها، إذ بوسع أيّ متلقٍ أن يستخدم هاتفه الخلوي الذكي لمشاهدة أيّ فيلم في أيّ وقت يختاره، ليحظى برؤية كاملة للفيلم بممثّليه وأحداثه وتفاصيله السينمائيّة الأخرى في سياق تلقٍ حيّ وباقٍ وقادر على التأثير باستمرار وبلا حدود.
يتمتّع الأثر الحيّ في الصورة المتحرّكة الناطقة بقوّة تأثير في الوسط الرائي الناظر بغضّ النظر عن الزمن والمكان والمناسبة والتاريخ والحالة، إذ يمكن للرائي الناظر أن يشاهد الفيلم السينمائيّ الذي يشاء متى يريد؛ ويمكنه أيضاً مشاهدته أكثر من مرّة بلا حساب، على النحو الذي يكتسب فيه حالة ضاغطة من التصديق والإقناع والحجاج على مستوى حضور الصورة، كما أُعدّتْ أوّل مرّة، وكأنّها تعيد إنتاج نفسها في كلّ حالة عرض مكرّرة بقيمةِ مشاهدةٍ لا تُنقِصُ من فاعليّة العرض الأوّل 
تقريباً.
يحصل ذلك كلّه بفضل الحراك الحيّ المتكامل للفيلم على صعيد أدوات العرض ومكوناته وطبقاته وحساسيّاته وأفعاله كلّها بالقدر نفسه من الكفاءة، فالشخصيات تظلّ محتفظة بهيأتها وصورها وكينونتها مهما طال الزمن وتغيّرت أمكنة المشاهدة وأحوالها ومشاعرها ووعيها، وهذه هي القيمة المركزيّة الفاعلة ذات التأثير العميق الدائم للأثر السينمائيّ الحيّ في الجمهور طالما أنّ الفيلم محفوظ وقابل لمشاهدةٍ جيّدةٍ أدواتيّاً. يحدث هذا الأمر بفعل المقارنة التقليديّة الدائمة بين الصورة السينمائيّة في الفيلم والصورة الاجتماعيّة في الواقع، بما يجعل نسبة التوافق والانسجام عالية جداً بين الصورتين على النحو الذي يؤسّس لقيم تلقٍ دائمة الفاعليّة والحضور والإدهاش، إذ يبقى المرجع الواقعيّ هو أداة القياس والاختبار والمضاهاة والمقارنة؛ يمتحن الفضاء السينمائيّ للتأكّد من قيمته الواقعيّة ودرجة تلاؤمه مع هذا الواقع الحاضر والراهن والقائم أبداً، إذ يبقى متلقّي الفيلم السينمائيّ حاضراً لإيجاد مزيد من التلاقي بين ما يشاهده بَصريّاً وما يعيشه واقعاً.
يمكن معاينة تأثير السينما من جوانب عديدة -إيجاباً وسلباً- بحكم طريقة التلقّي وأسلوبيّة التعامل مع هذا النوع من الفنّ، إذ على الرغم من الإيجابيات الثفافيّة والفنيّة والاجتماعيّة الكثيرة التي تقدّمها السينما للمجتمع في مجالات كثيرة، إلا أنّها قد تعكس سلبيات غير منظورة أو "مضمَرة" في هذا السياق؛ منها ما يوصف بالوقوع داخل ما يصطلح عليه "ثورة التطلّعات" حين يستغرق المُشاهد عميقاً في تفاصيل الفيلم السينمائيّ ويتماهى مع البطل ويتطلّع إلى أن يكونه، ويؤدي هذا التماهي إلى خلق نزعات غير طبيعيّة لديه قد تخرّب فعاليّة تعاطيه السليم والطبيعيّ مع واقعه المعيش، فثورة التطلّعات هذه تؤثّر في من يقع تحت سطوتها عميقاً وتقضي على أيّ قدرة له لتحقيق التوازن المطلوب بين ما يرى وما يعيش.
تسهم الذاكرة البَصَريّة في الحفاظ على معالم الأثر الحيّ بحيث يبقى الفيلم السينمائيّ قابلاً للعرض والمشاهدة والتأثير كما هو من دون أيّ تغيير أو تلاعب مهما طال الزمن، ومن وسائل تنشيط هذه الذاكرة هي ديمومة المُشاهدة والمتابعة البَصَريّة لكلّ ما من شأنه تدعيم أسسها وتمتين أواصرها، فالممارسة البصَريّة على هذا النحو تجعل العين الرائية - بوصفها أداة التلقّي السينمائيّ المباشرة- متواصلة تواصلاً حيّاً مع الذاكرة البصَريّة بما يحقّق الحيويّة والنشاط المشترك المتبادَل، لأنّ فقدان هذا التواصل الضروريّ يهدّم كثيراً من الجسور الجدليّة التقليديّة القائمة بين العين والذاكرة على أكثر من صعيد، لتتعطّل مراكز ذاكراتيّة مهمّة لا توفّر للعين الرائية ما تحتاجه من أدوات لأجل رؤية أفضل وأوضح وأكثر تأثيراً، بمعنى أنّ إنعاش الذاكرة البَصَريّة بحاجة ماسّة لإدامة التواصل والتفاعل بين أدوات العمل الفاعلة في هذا المضمار، والسعي نحو بناء تقاليد تجعل العلاقة بين الأثر الحيّ والذاكرة البَصَريّة في أحسن حالاتها كي تكون النتائج المرجوّة على أعلى مستوى ممكن من التأثير.