هيفاء زنكنة
ترجمة: أنيس الصفار
هبَّت على العراق عاصفة غبار غطت سبع محافظات من بينها بغداد وأدت إلى حدوث أكثر من خمسة آلاف حالة اختناق ووفاة شخص واحد. تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً تثير الذهول لغبار أحمر يلف كل شيء .. الجوّ والناس والأماكن.. للمرَّة السابعة خلال شهر واحد. هذه الصور رافقتها تحليلات ونظريات جمعت بين الدليل العلمي والمبالغة والإعلام الرسمي المشفوع بالتبريرات بدرجة أو بأخرى.
تركّز التصريحات الرسمية دائماً على ظواهر التغير المناخي وقلة الأمطار والتصحّر، وهي أسباب حقيقية تعمّ العالم برمّته، فالدمار الذي ألحقه الإنسان بالبيئة لم يعد سراً خفياً وأعراضه المتفاقمة شملت الأعاصير والفيضانات وتصاعد درجات الحرارة والتصحّر وجفاف الأراضي الزراعية وحرائق الغابات وتزايد انبعاث الغازات وتلوّث الهواء. هذه الظواهر كلها حذّر منها علماء البيئة منذ زمن بعيد ودعوا إلى ضرورة وضع حلول جذرية لها. كذلك لم يدخر العلماء ونشطاء البيئة جهداً في التأكيد على ضرورة إلزام جميع الدول بلا استثناء بإجراء التغييرات التي تحدّ من ذلك كله أو تعجِّل بترميم الضرر الذي وقع.
حين ينظر المرء إلى الوضع البيئي في العراق سيجده مختلفاً ومميزاً عما هو الحال في أميركا وأوروبا .. أو حتى الدول المجاورة له. برغم ذلك تحاول التصريحات الرسمية أن ترزم ذلك كله في الخانة نفسها. فعند متابعة التصريحات الرسمية المحلية والتقارير الدولية نرى بسرعة أنها لا تتصدّى لجذور الكارثة البيئية في العراق أو مسؤولية السياسة الاستعمارية الغربية عنها. تلك التصريحات تتصور أنَّ من الكافي حكّ سطح المشكلة بتشكيل لجان يبقى مصيرها مجهولاً ما ان تخمد الهبة الإعلامية. هذا كله يقيم العراقيل بوجه التوصل إلى حل حقيقي يسهم في إيقاف التدهور كخطوة أولى كي يبدأ من بعدها إصلاح الأوضاع.
تنبع فرادة الوضع المفجع هنا من حقيقة أنَّ الكارثة البيئية، إضافة إلى الخراب الذي عمَّ البلد، كان من ثمرات الحرب والاحتلال والاستعمار الجديد والسياسات الدولية والإقليمية التي عززها نظام اللادولة في العراق، وقد أدى ذلك كله إلى تقويض القواعد الاقتصادية للحياة في المنطقة. آثار هذه الحروب والسياسات الاستعمارية، إلى جانب تجاهل النظام مسؤولياته بشكل تام، أمور يشهد عليها التغير المناخي المدمر وانحسار الموارد الطبيعية وشح المياه وتلوث الهواء والتربة من فرط استخدام الذخائر الحديثة مثل اليورانيوم المنضب.
تفيد التقديرات بأنَّ حرب العراق قد تسبّبت بإطلاق 141 مليون طن من غاز ثاني أوكسيد الكاربون خلال الفترة ما بين 2003 إلى 2007، أي أكثر من 60 بالمئة من مجمل ما أطلقته دول العالم مجتمعة، وقد وثقت العالمة العراقية الدكتورة سعاد العزاوي والمصرية بياتريس بوكتور في الكثير من أبحاثهما انتهاكات الولايات المتحدة القانون الدولي خلال حرب الخليج من خلال استخدامها أسلحة قادرة على إحداث تأثيرات طويلة الأمد والتسبّب بتخريب دائم للبيئة الطبيعية حتى بعد انتهاء الحاجة العسكرية لتلك الأسلحة. وها هو الزمن يؤكد ما ذهبت إليه الباحثتان، لاسيما بعد مواصلة الولايات المتحدة انتهاك قوانين الحرب والقوانين الإنسانية في السنوات التي أعقبت ذلك حتى غزوها العراق في العام 2003.
من جملة الأسباب التي أدت إلى تخريب البيئة العراقية، والتي تمّ التكتم عليها بشكل مقصود، الكيفية التي كانت القوات الأميركية تستعين بها للتخلص من النفايات العسكرية بإحراقها في حفر واسعة في الأرض.
يقرّ الجنود أنَّ تلك النفايات كانت تتضمن تجهيزات طبية ومواد طلاء وقناني المياه البلاستيكية والبطاريات، وحتى سيارات هامفي (هامر) بأكملها. تسببت عملية الإحراق تلك بأمراض خطيرة للجنود أنفسهم، حيث يقول “دان بريور” المقدم المتقاعد في الجيش الأميركي: “لقد كان الدخان ساماً .. قاتلاً صامتاً.. قد لا يقضي عليك غداً في ساحة المعركة ولكن فيما بعد على المسار جراء تأثيراته الصحية على المدى البعيد. وها نحن نرى ذلك الآن.. نراه بكثرة.” هذا التصاعد في ظهور الأعراض على الجنود الأميركيين أدى إلى تأسيس جمعية تطالب بتوفير العناية الخاصة والتعويضات للجنود المصابين، لكن لم يرفع أحد من السياسيين العراقيين أو الأجانب، أو حتى العاملين في منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، صوتاً للمطالبة بإجراء تحقيق في طبيعة الأعراض التي تعرّض لها المواطنون العراقيون جرّاء حرق تلك المخلفات السامة، ناهيك عن المطالبة لهم بتعويضات. يبقى ازدواج المعايير هذا هو اللغة السائدة.
لا يختلف اثنان على مدى تعقد الوضع البيئي العراقي أو في كونه ثمرة لعقود من الخراب، بيد أنَّ التقاعس عن تحميل الغرب المسؤولية الأساسية عن هذا الخراب ووضع حلول لا تخرج عن مسار الأنظمة التي كانت هي السبب أصلاً في هذا الخراب، لن يؤدي إلى تنظيف البلد ومنعه من الانزلاق أكثر فأكثر نحو قلب الدوامة. نقص المياه في نهري دجلة والفرات جراء إقامة السدود من قبل إيران وتركيا في انتهاك للاتفاقيات الدولية يمثل مشكلة جدية تصدّت لها الدكتورة سعاد العزاوي في بحثها الأخير الذي تشير فيه إلى حتمية انتهاء هذين النهرين إلى الجفاف في نهاية المطاف. هذه الكارثة لن تتوقف طالما بقي النظام الحاكم مكوناً من أحزاب تتنازع في ما بينها حد الاقتتال مجردة الدولة بذلك من أي سلطة مركزية أو نفوذ. على هذا النحو ستبقى الحلول معلقة بلا تنفيذ.. حتى أبسط الحلول مثل تشريع قانون يحظر التنقيب غير النظامي وتجريف البساتين من أجل تحويلها إلى مبان ومنع اقتلاع الأشجار والتشجيع بدلاً من ذلك على غرس الأشجار بكثافة وإعادة المزارعين إلى أراضيهم التي هجروها بسبب الجفاف والعواصف.
سوف تبقى المعالجة الحقيقية مرهونة بوجود إرادة سياسية صادقة نابعة من قلب المجتمع وممثلة لمصالحه.. إرادة يفرضها الشعب بنفسه.
عن صحيفة “مدل ايست مونيتر”