أحمد عبد الحسين
هناك تقرير لمعهد تشاتام هاوس وهو مركز دراسات بريطانيّ، اسمه الرسميّ "المعهد الملكي للشؤون الدوليّة" فيه خلاصة نُشرتْ مؤخراً عن وضع العراق الآن ومستقبلاً، وهي ـ ككلّ ما يتعلق بالعراق ـ لا تبشّر بخير.
ينتهي التقرير إلى أنَّ حجم النقمة الشعبيّة ضدّ النظام السياسيّ أفقد هذا النظام شرعيته، ويعزو الانسداد إلى فقدان الشرعية أكثر مما يعزوه إلى طبيعة الحراك السياسيّ الذي يراه التقرير عملاً مصرفياً ومجرد تنقّل للأموال واستثمار لها، ويشترط لإعادة الشرعية من جديدٍ إنهاء حقبة الفساد، مع تأكيده صعوبة المهمة التي تبلغ حدّ الاستحالة.
كلّ ما يحدث في العراق من مآسٍ، سببه وجوهره الفساد ليس إلا، الحرب الأهلية التي قسمت الشعب طائفياً كانتْ في جوهرها نزاعاً حول تقسيم الغنيمة. استفحال داعش وتقويته كان تكتيكاً غير محسوب النتائج لخطة تتيح للحاكم آنذاك الاستفراد بالسلطة وتقسيم الخزائن كما يشتهي بين فرسان العملية السياسيّة التقليديين. الانتخابات وقانونها ونتائجها كانت جميعها مصممة لإبقاء العراق بنكاً بمساهمين لا يتغيرون.
في آخر الأمر ليس السياسيون هم الفاسدين فقط. بل العملية السياسية هي اسم آخر للفساد، ومن العبث التفتيش عن فاسد هنا في هذه الوزارة وآخر في تلك الهيأة؛ فذلك جهد لا طائل تحته ما دام العمل السياسيّ كلّه يدور في منطقة لا تنتج إلا فساداً وتطرد تلقائياً كلّ مَنْ لا يتوافق مع أعراف ومقررات محفل الفاسدين.
السياسة، أعني الفساد، في العراق ذات طبيعة مافيوية. والمحافل المافيوية لا تنتهي بسهولة، تعلّمنا ذلك من قراءة تجارب الدول التي تنشط فيها المافيا كإيطاليا مثلاً، ففي كتب روبيرتو سافيانو "الروائي الذي انشقّ عن عصابات المافيا وكشف عن تنظيماتها الحديدية" تأكيدٌ على أنَّ محاولة القضاء على المافيا بالقوانين أو حتى بالسلاح أمر عبثيّ.
في حملاتها المسمّاة "الأيادي البيض" قامت إيطاليا بزرع أناس في هذه المحافل وتفتيتها من الداخل ونجحتْ إلى حدّ ما، ففي النهاية، لا يحلّ المحفل المافيوي نفسه ولا يتقاعد أعضاؤه حين يشبعون، ولا يشبعون في الحقيقة. هناك طريق واحد متاح: يمكن للمافيا أن تتفسّخ وتنهار جرّاء الاختلاف الحاصل بين أعضائها.
في الدول المحكومة كلِبتوقراطياً "أيْ حكم اللصوص" يغدو الاختلاف بين الساسة بارقة أمل منعشة للناس عسى أن يكون احترابهم مفضياً إلى حلّ، لا أن يكون بداية لتشكيل محفل جديد.