تعاظم خطر المواجهة النووية

قضايا عربية ودولية 2022/05/16
...

 ترجمة: أنيس الصفار 
مع امتداد أمد الحرب الروسية في أوكرانيا ودخولها شهرها الثاني يستمر خطر التصعيد النووي الكارثي بين موسكو والغرب بالتصاعد. فقد أوردت التقارير أن فنلندا والسويد تتحركان قدماً، بحافز من الحرب الدائرة في أوكرانيا، صوب احتمال التقدم بطلب للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). ففي الأسبوع الماضي، ومن خلال مؤتمر مشترك عقدته في ستوكهولم مع نظيرتها السويدية “ماغدلينا أندرسون”،  قالت “سانا مارين” رئيسة وزراء فنلندا: “لقد تغير كل شيء عندما غزت روسيا أوكرانيا. باعتقادي أن المزاج الشعبي في فنلندا، وفي السويد كذلك، قد تغير وتشكل دراماتيكياً بسبب ما أقدمت عليه روسيا. هذا واضح تماماً وقد أوجد حاجة ملحة لمناقشة خياراتنا الأمنية.»
 
كانت التقارير قد أفادت في وقت سابق من الأسبوع الماضي بأن فنلندا تستعد للتقدم بطلب الحصول على عضوية الناتو قبل نهاية شهر آيار، وأن السويد لن تلبث أن تحذو حذوها. لندن من جانبها أعربت بشكل صريح عن دعمها لتوسيع الناتو بضم فنلندا والسويد اليه، وقالت وزيرة الخارجية  البريطانية “ليز تراس” في تغريدة لها: “للسويد وفنلندا حرية اختيار مستقبلهما بلا تدخلات، والمملكة المتحدة سوف تدعمهما في ما تختاران أيما كان قرارهما”. ردد هذه الرسالة أمين عام حلف الناتو “ينس ستولتنبرغ” في وقت سابق من شهر نيسان بقوله: إن الدولتين الشمال أوروبيتين سوف تلقيان ترحاباً كبيراً إذا ما اختارتا الانضمام إلى الناتو. أما إدارة بايدن فهي حتى الآن تبدي تضارباً أكبر في رسالتها المعلنة، ولو أن هناك تقارير تشير إلى إجرائها مشاورات من خلف الكواليس مع هلسنكي وستوكهولم بشأن طلب الانضمام المحتمل إلى الناتو.  
روسيا من ناحيتها سبق أن حذرت من أن دخول السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، الذي من شأنه لو حدث أن يعزز تواجد الحلف في بحر البلطيق مع إمكانية عسكرة جبهة الحدود الفنلندية الروسية التي تمتد لمسافة 800 ميل، سوف يسفر عن موجة جديدة من التصعيد النووي. فقد قال :”دميتري ميدفيديف” الرئيس الروسي السابق الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي: “إذا ما انضمت السويد وفنلندا إلى حلف الناتو فإن حدود التماس البري لهذا التحالف مع الاتحاد الروسي سوف تزداد بأكثر من الضعفين، ومن الطبيعي أن هذه الحدود سوف ينبغي تعزيزها. لا سبيل لمزيد من الحديث بعد ذلك عن بلطيق خلو من الأسلحة النووية لأن التوازن لابد أن يستعاد.” ملمحاً إلى أن هذا التحرك من شأنه دفع روسيا إلى نشر أسلحة نووية في منطقة بحر البلطيق كرد مقابل.
لم يولِ الغرب تحذيرات الكرملين اهتماماً كبيراً، حيث قالت تراس في تغريدة على تويتر: “التهديدات الروسية الموجهة إلى دول الشمال وبحر البلطيق ليست جديدة وكل ما تفعله هو تقوية وحدتنا”. أما “كارل بلدر” رئيس وزراء السويد السابق فقد استبعد تصريحات ميدفيديف ووصفها بأنها مجرد تهديدات جوفاء، على حد تعبيره، مشيراً إلى الوجود المزعوم للأسلحة النووية في جيب كاليننغراد الروسي في قلب أوروبا.
هذا الاستعداد المتجدد من قبل الناتو لتقبل خيارات أمنية كان من الممكن أن ترفض في الماضي لما تنطوي عليه من مجازفة ولكونها استفزازية بلا داع يكشف ملامح نهج آخذ بالظهور في سياسة التعامل مع روسيا بعد 24 شباط. أعلنت تراس لنظرائها في حلف الناتو خلال مأدبة أقيمت في وقت سابق من هذا الشهر أن عصر التعامل مع روسيا قد ولى وانتهى وأن على الحلف بدلاً من ذلك أن يقيم نهجه على أساس المرونة والدفاع والردع. أضافت تراس أن المبدأ الجوهري لقانون التأسيس بين حلف لناتو وروسيا للعام 1997، وهو المبدأ القائل بأن على كل من الجانبين ألا يعتبر الجانب الآخر عدواً له، قد لفظ أنفاسه.
وإذ تنشغل روسيا بهجوم جديد في منطقة الدونباس الشرقية يكثف الغرب نشاطه في برنامج غير مسبوق لإرسال المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا. واشنطن من ناحيتها لا تكتفي بإعطاء أوكرانيا السلاح بل تخبرها أيضاً أين ينبغي عليها توجيهه. فوفقاً لتقارير حديثة أن إدارة بايدن أرخت الضوابط الداخلية إلى حد كبير بهدف السماح للبنتاغون وأجهزة المخابرات الأميركية بمشاطرة الجيش الأوكراني أية معلومات فورية تتعلق بالاستهداف. لكن مع تصاعد الضغط من قبل الجمهوريين والديمقراطيين الذين يجادلون بأن الولايات المتحدة لا تقدم ما يكفي لدعم الجهد الحربي الأوكراني يبدو أن تجاوز هذا الخط أيضاً لم يعد سوى مسألة وقت.
إذ يتواصل تقديم السلاح والمعلومات الاستخبارية التي تكفل استمرار الحرب إلى أجل غير محدد يعمل أعضاء كبار في الناتو على تقييد موقف أوكرانيا التفاوضي في محادثات السلام الجارية. فقد قالت وزارة الخارجية البريطانية: “علينا التثبت من ألا تسفر أية محادثات مستقبلية عن بيع أوكرانيا أو تكرار أخطاء الماضي، فنحن نتذكر تلك التسوية المريبة في 2014 التي فشلت في توفير أمن دائم لأوكرانيا. ها هو بوتين قد عاد لأخذ المزيد، ولهذا السبب لا يمكننا السماح له بتحقيق مكاسب من هذا العدوان المروع”. في غضون ذلك طالب الاتحاد الأوروبي الكرملين أن يبادر فوراً وبلا شروط بسحب جميع قواته ومعداته العسكرية من كامل الأراضي الأوكرانية، وأضاف الاتحاد أن على روسيا إبداء الاحترام  الكامل لوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها ضمن حدودها المعترف بها دولياً. بعبارة أخرى يبدو أن اي اتفاق سلام يسمح للكرملين بحفظ ماء وجهه لن يكون مقبولاً بالنسبة للغرب، وأن أية تنازلات ذات صلة، سواء بصيغة ضمانات بعدم توسيع رقعة حلف الناتو أو بإبداء المرونة حيال وضع مناطق معينة في شرق أوكرانيا، سيتم التعامل معها باعتبارها جريمة أخلاقية.
يفهم من ذلك أن أغلبية  من حكومات التحالف الغربية تجهد في إعاقة التوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات لإنهاء الكارثة الإنسانية التي تتكشف صفحاتها في أوكرانيا، وجر الكرملين بدلاً من ذلك إلى مستنقع يمتد لسنوات تتضاءل إزاءه المواجهة مع المجاهدين 
في أفغانستان.
تتلقى كييف تشجيعاً من قبل داعميها الغربيين لعدم الجنوح إلى الحلول الواقعية الخلاقة من أجل وضع نهاية سريعة لإراقة الدماء، بل الضغط صوب أجندة الحد الاقصى في ساحة المعركة وعلى طاولة المفاوضات. يضغط بعض أعضاء الكونغرس من الجمهوريين على إدارة بايدن كي تيسر للأوكرانيين القدرة على شن هجمات مضادة يستعيدون بها جميع الأراضي التي احتلها الروس، بما فيها شبه جزيرة القرم وجمهوريتا دونتسك ولوغانسك الشعبيتان الانفصاليتان، ومع تحول الفعاليات الحربية إلى جهة الشرق يرجح أن تتعالى الأصوات التي تدعو لمساعدة أوكرانيا على نقل المعركة إلى داخل روسيا. يعتزم كثير من المشرعين الغربيين حشر موسكو في زاوية، ولكن ترى ما الذي يمكن أن يحدث بعدها لو نجحوا فعلاً في ذلك؟ 
ما من مؤشرات تنم عن الكرملين، المقتنع تمام الاقتناع بأن الصراع الدائر يضع مصالحه الوجودية تحت طائلة التهديد، لديه أدنى نية على التراجع أمام حملة الضغوط القصوى التي يشنها الغرب على روسيا، بل أن الدلائل الراهنة كلها تشير إلى عكس ذلك نحو مزيد من التصعيد. في الأسبوع الماضي حذر “وليام برنز” مدير وكالة المخابرات المركزية من أن روسيا قد أثبتت عدم القدرة على تدارك نكساتها العسكرية في أوكرانيا بالوسائل التقليدية، لذا فإن موسكو قد تلجأ في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار باستخدام أسلحة نووية تكتيكية واطئة الزنة. ومع تلاشي الآمال بالتوصل إلى معالجة دبلوماسية للموقف فإن الحرب في أوكرانيا مؤهلة لأن تعصف بالقارة الأوروبية وتزيد استقرار النظام العالمي اضطراباً على اضطرابه دون أن تلوح للأمر نهاية في الأفق.
 
 * مارك إبسكوبوس/عن مجلة 
«ذي ناشنال إنتريست»