تخلّف وتحضّر المجتمع

الصفحة الاخيرة 2022/05/17
...

سامر المشعل 
أصبحت الموسيقى مقياساً لحضارة الأمم والشعوب من خلال مقولة كونفوشيوس الشهيرة «إذا أردت أن تعرف حضارة أمة، فاستمع إلى موسيقاها»، والذي يدعم هذا القول ويجعلنا نتحدث بزهو أن الحضارة السومرية، التي تعد أعرق وأهم حضارة إنسانية، هي من اكتشفت أول آلة موسيقية بالتاريخ وهي القيثارة السومرية، فهذه الأرض أول من عزفت الموسيقى وأول من كتبت النوتة الموسيقية، وأول أكاديمية لتعليم الموسيقى «كونسرفتوار» أنشئت في أرض الرافدين، وكانت بالقرب من قصر الملك السومري.
مما لفت نظري أثناء قراءاتي للموسيقى في الحضارة السومرية، أن العازف في المناسبات الدينية، يغسل يديه قبل أن يداعب أوتار آلته الموسيقية، فالموسيقى كانت لديهم أشبه بطقس قدسي، لأنها كانت تخاطب الآلهة والسماء.
وإذا عدنا من أعماق التاريخ إلى العصر الحديث، فالعراق أول بلد عربي في الشرق الأوسط، ينشئ معهداً متخصصاً بتدريس الموسيقى، في العام 1936 وهو معهد الفنون الجميلة الحالي، وهو بالأساس كان معهداً لتدريس الموسيقى، ثم فتحت به فروع أخرى لتدريس الفنون الجميلة، وقد أنشئ على يد الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر، وجلب للتدريس بهذا المعهد خيرة الموسيقيين العالميين. ومن هذا المعهد تخرجت عشرات الأسماء المهمة في عالم الموسيقى ومنهم غانم حداد وسالم حسين وعلي الامام وخالد محمد علي وسالم عبد الكريم ودلشاد محمد.. وغيرهم، الذين أثروا الساحة الموسيقية بمؤلفاتهم الموسيقية وحفلاتهم.
عندما يكون هناك اهتمام بالفن والثقافة عموما، مع حالة من الاستقرار السياسي، فإنك تجني ثمار ذلك مجتمعاً مثقفاً وحضارياً، ممكن أن نرصد فترة السبعينيات من القرن الماضي من تاريخ العراق المضطرب، إنه شهد حالة من الاستقرار النسبي، التي رافقتها حالة من الانتعاش الاقتصادي، فقد أخذ المجتمع بالتعافي الحضاري، وظهرت ملامح الاهتمام بالفن والثقافة على السلوك الاجتماعي، فهناك عشرات السينمات وقاعات التشكيل والعروض المسرحية والموسيقية والمكتبات، وهذا انعكس على الأسرة والأفراد بالاتجاه نحو الاستمتاع بالثقافة والفن وأصبحا جزءاً من توجه المجتمع، فالشاب يأخذ خطيبته إلى حفل موسيقي أو مشاهدة معرض تشكيلي، والأسرة من الممكن أن تذهب لمشاهدة فيلم جديد بإحدى صالات العرض السينمائي، ولا يتحرج الأخ الأكبر أن يأخذ شقيقاته لمشاهدة معرض كتاب أو عرض مسرحي أو معرض تشكيلي.. الخ.
الجو الثقافي الاجتماعي الذي ساد الحياة المدنية في السبعينيات، بالتأكيد له مقدمات سبقته في الخمسينيات والستينيات، حتى وصل إلى مرحلة التعافي في فترة السبعينيات، لكن هذا التوجه الثقافي لم يحقق التواصل واصطدم بجدار الحرب مطلع الثمانينيات، واستمرت دوامة الحرب والحصار والقمع والاستلاب الإنساني إلى الآن، حتى تراجع المجتمع وتخلف ثقافيا وحضاريا، وما نسمعه من موسيقى وغناء هابط ومخجل، هو إفراز طبيعي لمراحل التخلف والانحطاط الثقافي التي عشناها حالياً والمراحل السابقة.