محمد القبانجي.. محطات حافلة بالإبداع والشهرة العربية

الصفحة الاخيرة 2022/05/17
...

 بغداد : نورا خالد
 تصوير : رغيب اموري
استذكر نادي العلوية يوم الأربعاء الماضي الفنان الكبير الراحل محمد القبانجي خلال محاضرة ألقاها الدكتور مهند العبدلي مع إيجاز خاص عن أغانيه ومقاماته، وأدار الجلسة الدكتور علاء الدين القصير رئيس نادي رجال الأعمال الثقافي، بدأ العبدلي محاضرته عن بدايات القبانجي قائلا «كان يستمع منذ طفولته إلى الألحان والأغاني في عالم الفن والطرب، وأخذ أصول المقام الذي كان يهواه ويقرأه لنفسه وللمقربين منه.
 
 وحرص الصبي محمد القبانجي في سنوات طفولته ثم صباه على أن يرافق والده في الموالد، وتطورت هوايته، فبدأ يحفظ الأغاني والأناشيد ويرددها، ثم عشق الشعر فحفظ منه الكثير برغم صغر سنه، وبعد فترة قادته هوايته إلى الأماكن الشعبية والمقاهي الكبيرة التي كان يغني فيها كبار الفنانين وفي هذه الأماكن استمع إلى كل ألوان الغناء السائد وقتئذ في بغداد، وبدأ يتابع الفرق بين المطربين في الأداء محاولاً صقل موهبته الفنية».
 
مجالسة رواد المقاهي
وأضاف العبدلي «أخذ القبانجي يتردد على المقاهي فاستهواه مقهى كان صاحبه اسمه قدوري العيشة وكان أغلب رواده من المغنين والموسيقيين من بينهم قدوري العيشة نفسه وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط، إذ بدأ القبانجي يجالسهم ويستمع إليهم بشغف وينصت لأدائهم ولم يبخلوا عليه بالتدريب وشرح أصول الغناء والموسيقى في مقابل أن يقرأ عليهم القصائد التي يحفظها لكبار الشعراء».
بعدها أخذ العبدلي يردد بعضاً من أغاني القبانجي ومقاماته التي لاقت استحسان وتفاعل الجمهور الذي غصت به  قاعة النادي.
عاد المحاضر ليتابع «عندما غنى أمام الكبار قالوا لماذا لم تتبع طريقتنا في الأداء؟ ، فرد عليهم قدوري العيشة «إنه أحسن منا، دعوه يغني حسب طريقته وأجاب هو الحقيقة أنا لم أرفض طريقتهم في الغناء، لكنني لم أتقيد بهم وكنت أضيف ما أراه مناسباً ذوقياً، فكان يضيف من عرب ولطافة وترنيم في الانعطافات الصوتية العذبة لدرجة أن الموسيقى كانت تلهث أحياناً وراء نبراته وتحويلاته الذكية التي لا يخرج بها عن النغم ولا عن أصول المقام الثابتة وتشعر وأنت تصغي إليه بأنه يريد أن ينقلك إلى عوالم جديدة دون عقبات وهذا هو التجديد بحد ذاته» .
 
بصماته في الفن الشعبي
أكمل العبدلي محاضرته موضحاً «له بصمات في الفن الشعبي العراقي والأطوار المندثرة ودرس القصائد وأجاد المواويل، ولم يكتف بالدراسة في بغداد والتتلمذ على أيدي كبار مطربيها، بل قام بمغامرات أشبه بمغامرات الرواد والمكتشفين مخترقاً المناطق الشمالية ليستمع إلى مطربيهم، باحثاً عن أصل كل أغنية شعبية ومفتشاً عن كنوز الموسيقى العربية والعراقية ومع الدرس والتنقيب كان يغني فازدادت حلاوة صوته، وكان أول من أدخل الآلات الموسيقية الحديثة على الجوق المرافق لقراءة المقام في الحفلات العامة وفي تسجيل الاسطوانات، وكان هذا التغيير لأول مرة عندما سافر إلى برلين العام 1928 لتسجيل مقامات وبستات لصالح شركة بيضفون، فاصطحب معه جوقا موسيقيا حديثا، بدل الجالغي البغدادي التقليدي والذي كانت آلاته تقتصر على (السنطور والجوزة والرق والطبلة والنقارة)، وذلك رغبةً منه في توسيع التصرف في الأداء، وغيّر مظهر أفراد الجالغي من حيث لباسهم التقليدي لجعله مستساغاً أكثر لدى مضيفيه الاوروبيين».
 
ولادة مقام اللامي
كيف ولد مقام اللامي؟ تساءل العبدلي وأجاب عن ذلك بقصة عن القبانجي «ورده  خبر كاذب وهو خارج البلاد عن وفاة والده الذي تركه طريح الفراش ما أثار لديه مشاعر حزينة جعلته يلوم نفسه كونه بعيداً عن والده، لكنه استمر في التسجيل، إذ كان يؤدي أبياتاً من (الابوذية) وهي شكل من أشكال الغناء ومن مقام البيات وأثناء الغناء خرج القبانجي عن نغم البيات المعروف، وبعد إكمال الغناء والتسجيل، سألوه : «ماالذي غنيته»  فقال: «ابوذية» قالوا: «غنيته بنغم مختلف يا أستاذ» وعندما أعادوا التسجيل ودونوا النوتة الموسيقية وجدوا مقاماً جديداً اسماه مقام اللامي، وهنا ولد مقام اللامي وهذا المقام في الحقيقة مقام قديم، لكنه كان متروكاً ولا يستخدمه المغنون، ويعود الفضل إلى القبانجي في إظهاره وتنشيطه وتوسيعه، ونشره بين جمهور المستمعين، إذ أنشد فيه القبانجي يقول :
علام الدهر شتتنا وطرنا
عكب ذاك الطرب بالهم وطرنا
الف ياحيف ما كضينه وطرنا
ليالي اللي مضت متعود ليه
وبهذا يكون القبانجي قد فتح الباب أمام الشعر الشعبي (الابوذية) لأن يغنى بمقام اللامي وبدون ايقاع بطريقة الأداء الانفرادي والتي تسمى بـ (الصولو).
ختم العبدلي محاضرته بالقول «واصل محمد القبانجي مسيرته الفنية في ميدان الموسيقى والغناء في العراق فأثر فيهما كثيراً، هذا الاسم الكبير في عالم المقام والذي نال اعجاباً منقطع النظير وشهرة عربية واسعة جمع بين الأنغام المتداولة في البلدان العربية وصاغ منها الألحان والمقامات والأغنيات وأضافها إلى الغناء العراقي، انتهت هذه السيرة الحافلة بالإبداع  العام ١٩٨٩ بوفاته وترك لنا إرثاً حضارياً ذوقياً يدرس ويعلم».
لتنتهي المحاضرة بغناء وعزف أغنية «والله لكسر المجرشة» وسط تفاعل الجمهور الحاضر.