رعد اطياف
لا يمكن قراءة التاريخ الأوروبي بمعزل عن حركة الاستعمار. وإن حللناه بهذه الصيغة التبسيطية التجزيئية سنخالف الوقائع التاريخية، وستغدو قراءتنا فوق أحداث التاريخ تماماً، قراءة ميتافيزيقية تفترض نقطة مرجعية لا تصدقها الوقائع المادية. التنوير الأوروبي لم يكن مفصولًا عن الاستعمار. ليس بالضرورة الاستنتاج أن الاستعمار كان الدافع الجوهري لحركة التنوير، فهذا الاستنتاج لا يقل ضعفاً عن سابقه، كل ما في الأمر ثمة شروط عديدة اجتمعت في القارة الأوربية لتنتج هذا المد الحضاري، وبالتأكيد كان للاستعمار ومراكمة آلاف الأطنان من الذهب والفضة أحد العوامل الرئيسة في الرفاه الأوروبي.
لو فصلنا التقدم الأوروبي، نظرياً، عن عامل الاستعمار ترى كيف سنتصور الحضارة الأوروبية؟ الغاية من هذه المقدمة السريعة لا تدخل ضمن ثنائية الشيطنة والتقديس، كما ولا تدخل في ثنائية: أن الأشياء إما شر مطلق أو خير مطلق، بقدر ما هي توضيح تاريخي ينشد الموضوعية والإنصاف، وما من حضارة إمبريالية خلت من هذه المفاصل التاريخية المهمة، فالقوة هي إحدى دعائم الحضارة، وهذه الأخيرة لا تُبنى في الفكر المجرد فحسب رغم أهميتها
القصوى.
لم يكن الفكر الأكاديمي، على أهميته العظيمة، وحده من قلب الموازين في الغرب الأوروبي، بل اجتمعت كل أسباب القوة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، لبناء الحضارة الغربية. ربما تنفع هذه القوى الثلاث كنموذج تفسيري لفهم التقدم لأي بلد يسعى للازدهار. فمن هنا، شخصياً، لست مقتنعاً، أن الفكر، على أهميته كما نوهنا بأنه قادر على تغيير الوضع، لو فهمناه بطريقة تبسيطية ما لم يقترن بهذه القوى. ذلك أن الشروط الموضوعية ترتبط في ما بينها، ويعتمد كل منها على الآخر لتشكل لنا ظاهرة معينة. المعرفة قوة بلا شك، لكن متى تكون قوة؟ ستكون قوة مؤثرة ومقدمة هائلة للتغير لو اجتمعت معها الأسباب أعلاه، ومن دونها سنكون
مستهلكين.
ليس بالضرورة أن نختلق استعمارا جديدا للفوز بمحاسن الحضارة الأوروبية، ذلك أن المشكلة ليست هنا، وإنما في النماذج المشوهة التي نحاكيها، فنحن لم نصل حتى لطور المحاكاة!، بقدر ما نقدم نسخاً بالية وعتيقة. وما زالت القوى المذكورة أعلاه أبعد ما تكون عن المشهد السياسي العراقي، فالتكالب على المتاع الرخيص هو الشغل الشاغل للطبقة السياسية. على الأقل كان الأوربيون يراكمون الأموال من الخارج إلى الداخل، أما مراكمتنا فتحدث بطريقة عكسية. أنه التنوير مقلوب؛ انقلبت الديمقراطية عندنا على عقبيها، ولم نعد نفرق بين الديمقراطية بوصفها حلاً أم بوصفها مشكلة؟.