بايدن أربك الموقف مع الصين

قضايا عربية ودولية 2022/05/25
...

 ديفد سمث
 ترجمة: أنيس الصفار  
 
كان المؤتمر الصحفي، الروتيني إلى حد ما، في طوكيو يقترب من نهايته عندما جاء السؤال: “هل أنت مستعد للمشاركة عسكرياً في الدفاع عن تايوان إذا ما آل الأمر إلى ذلك؟
العديد من الرؤساء الأميركيين السابقين كانوا سيعمدون إلى المناورة أو الاعتراض أو الامتناع عن إعطاء جواب مباشر لهذا السؤال .. ولكن الأمر لم يكن كذلك في حالة “جو بايدن”. رد بايدن بلا أدنى مواربة: “أجل!” ثم أضاف: “هذا هو التعهد الذي ألزمنا أنفسنا به”.
بهت المراسلون الحاضرون في المكان وأصابتهم البغتة. قال “سيباستيان سمث” مراسل وكالة الأنباء الفرنسية في البيت الأبيض مغرداً على تويتر: “لقد رفع جواب بايدن مستويات الأدرينالين في قاعة المؤتمرات في تلك اللحظة، وما حدث بعد ذلك فهو إننا جميعاً انطلقنا محاولين تفسير ما الذي يعنيه هذا كله”.
أحد المعاني المحتملة هو أن أميركا قد تخلت عن موقفها الذي التزمت به طويلاً بشأن تايوان المعروف بـ”الغموض الستراتيجي.” لكن بايدن لم يطرح “وضوحاً ستراتيجياً” بقدر طرحه “إرباكاً ستراتيجياً”، وهذا يأتي منسجماً مع مواقف رئيس اعتاد أن يتحدث بدون وضع مرشحات دبلوماسية تغربل له كلماته.
تعتبر الصين جزيرة تايوان الديمقراطية أرضاً تابعة لها وفق مبدأ “الصين الواحدة”، وتقول عن ذلك إنها القضية الأشد حساسية وأهمية في علاقتها مع واشنطن.
هنا تأتي سياسة “الغموض الستراتيجي”. فالمبدأ المذكور يوجب على الولايات المتحدة أن تمدّ تايوان بالوسائل التي تمكنها من الدفاع عن نفسها، لكنه مع هذا لا يعطي وعداً مباشراً بالتدخل العسكري في حالة نشوب صراع مع الصين. في الوقت نفسه لا يتعهد مبدأ “الغموض الستراتيجي” أبداً بالبقاء خارج الصراع.
هذا الإبهام المقصود ساعد حتى الآن في صد الصين عن محاولة غزو تايوان، وفي الوقت نفسه ساعد في صد الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي عن إعلان استقلالها الكامل. أي من هذين السيناريوهين من شأنه لو حدث أن يفجر أزمة جيوسياسية كبرى.
في السنة الماضية دافع منسق السياسة الأميركية للمحيطين الهندي والهادئ “كرت كامبل” عن مبدأ الغموض الستراتيجي بالقول إن “الوضوح الستراتيجي” تعتريه سلبيات كبيرة. 
بيد أن بايدن قد أظهر حتى الآن أنه أقل ارتياحاً ممن سبقوه لتدرجات اللون الرمادي، لذا أصر على السحب الكامل للقوات الأميركية من أفغانستان في السنة الماضية رغم ما أعقب ذلك من فوضى وتداعيات انتهت بتمكين طالبان من استعادة السلطة. في الوقت نفسه كان يعمل على جس النبض وتحسس الحدود الممكنة في حالة تايوان.
في مقابلة أجرتها معه شبكة “أي بي سي نيوز” في شهر آب الماضي بدا بايدن وكأنه يضع تايوان في مصاف الدول الأخرى التي تلتزم واشنطن بالدفاع عنها، مثل كوريا الجنوبية.
بعد ذلك، في شهر تشرين الأول، تحدث الرئيس مع شبكة “سي أن أن”. وعندما سئل إن كانت الولايات المتحدة ستهب للدفاع عن تايوان أجاب: “أجل .. نحن ملتزمون بذلك”. لكن “بوني غليسر”، الخبيرة بالشأن التايواني من صندوق مارشال الألماني في الولايات المتحدة، وصفت تلك العبارة بأنها “هفوة لسان” وتابعت تقول إنها حتماً “ليست بحقيقة” أن تكون الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن تايوان.
منذ ذلك الحين بقي بايدن يكرر التزام أميركا “الراسخ” تجاه تايوان، كما دعى عضو الكونغرس المرموق “آدم شيف” إدارة بايدن لأن تخفف الغموض بهذا الشأن، في حين حذر وزير الخارجية “أنتوني بلنكن” من أن الولايات المتحدة وحلفاءها سوف يتخذون “إجراء غير محدد” إذا ما لجأت الصين إلى القوة لتغيير الوضع الراهن في تايوان.
بعد إدلاء بايدن بملاحظته في المؤتمر الصحفي المشترك يوم الاثنين الماضي مع رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا”، قال أحد مساعدي الرئيس الأميركي أن التصريح لا يمثل تحولاً في الموقف الأميركي القائم منذ أمد بشأن الجزيرة. كما أبلغ أحد المصادر شبكة “سي أن أن” أن بايدن كان يقصد توفير السلاح وليس نشر قوات فعلية على الأرض.
لكن الصيغة التي عبر بها المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانغ وينبن” عن شدة الاستياء والمعارضة القاطعة لتعليقات بايدن جعلت حيز الدفاع عن محاولات الترقيع هذه يضيق أكثر فأكثر.
غرد “ريتشارد هاس” رئيس مؤسسة “مجلس العلاقات الخارجية” في واشنطن قائلاً: “إنها المرة الثالثة التي يتحدث فيها رئيس الولايات المتحدة معطياً الأرجحية للوضوح الستراتيجي في ما يخص تايوان، وهي المرة الثالثة التي يحاول فيها موظفو البيت الأبيض سحب ما قاله. من الأجدى أن نعتنق ما حدث باعتباره موقفاً جديداً للولايات المتحدة .. انه موقف منسجم تماماً مع سياسة الصين الواحدة مع تغيير في كيفية تطبيق الولايات المتحدة لها”.
تضيف غليسر، من صندوق مارشال الألماني، في تغريدة على تويتر: “ينبغي الآن أن يتقدم مسؤول كبير من إدارة بايدن بخطاب شامل يفصل فيه سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان، لأن من الأرجح أن يسفر الالتباس والتشوش وأخطاء العبارة عن تقويض عامل 
الردع بدلاً من تعزيزه”.
الأمر الذي قد يكون أدى إلى هذا التغير الجزئي في الحسابات هو الغزو الروسي الكارثي غير المبرر لأوكرانيا. هناك في واشنطن من يعتقد أن الرئيس الصيني “شي جنبنغ” قد بدأ يدرك الآن كم قلل من استعداد أميركا للنهوض بدور القيادة وكم هون من شدّة عزم الغرب وقوّة وحدته. فالمصاعب التي يواجهها الجيش الروسي أعطت إيحاء واضحاً بأن الجيش الصيني هو الآخر لن يجد الطريق أمامه مفروشاً بالورود.
في يوم الاثنين الماضي قال بايدن إنه يأمل أن يدفع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ثمن غزوه لأوكرانيا، ويكمن جانب من هذا الأمل في جعل الصين تبصر ما يمكن أن تواجهه إذا ما أقدمت على غزو تايوان.
لعل بايدن يشعر بالجرأة الآن إذ رأى أن الإفصاح الصريح عما بخاطره حول أوكرانيا (أو حول نهج الوضوح المبالغ به الذي تتبعه الحكومة الأميركية) لم تترتب عليه نتائج يحذر منها. ففي شهر آذار الماضي، وفي البيت الأبيض تحديداً، قال بايدن متحدثاً عن بوتين في رد على سؤال لأحد المراسلين: “اعتقد أنه مجرم حرب”.
أوضحت السكرتيرة الصحفية باسم البيت الأبيض آنذاك “جين ساكي” أن المراجعة القانونية لا تزال تأخذ مجراها في وزارة الخارجية، موضحة أن الرئيس كان ينطق بما يجيش به صدره لا أكثر.
في وقت لاحق من ذلك الشهر وقعت “هفوة لسان” أكبر عندما قلب بايدن رأساً على عقب خطبة في وارشو كانت قد صيغت بعناية شديدة حين أطلق إحدى عباراته المرتجلة قرب نهاية الخطاب. قال، وهو يقصد بوتين مرة أخرى: “والله ان هذا الرجل لا يمكن أن يبقى في السلطة.” ولكن الجدل تبدد بدرجة أو بأخرى بعد مأزق استمر 48 ساعة حين راح البعض يدافع عن بايدن بالقول إنه ناطق بالحق لا يهمه أن يخرق ما نمقه محررو الخطابات.
يصف “جون ميتشام”، الذي يعمل مؤرخاً رئاسياً وبين حين وآخر مستشاراً لبايدن، الرئيس الأميركي بأنه أشبه ما يكون بجبل جليدي مقلوب، معظمه مكشوف لا تكاد تخفى منه خافية. أما “فاليري بايدن أوينز” شقيقة بايدن ومديرة حملته منذ وقت طويل، فتقول إن تلك ليست هفوات بل هو بايدن يتحدث بكل عفوية ودقة.
ربما كان هذا أحد الأمور القليلة المشتركة بين بايدن وسلفه “دونالد ترامب” .. ذلك الميل للتحدث بصراحة يراه كثيرون نابعة من الأعماق ومنعشة للسامعين بعد جيل من السياسيين المتملصين الماكرين الذين يوجهون خطابهم إلى مجاميع معينة بالتحديد، وقد ثبت أن هذه الصفة كانت مكسباً لكلا الرجلين على مسار حملتيهما.
بيد أن هذه الصفة، كما أثبت ترامب، تكون في أغلب الأحيان كالسير على سلك مشدود تحف به المهالك حين يكون الأمن العالمي معلقاً بكفة ميزان.
 
* عن صحيفة الغارديان