علي لفتة سعيد
منذ أن وجد الإنسان وجدت عمليات البحث عن تنظيم المكان من أجل إدامة العيش والحياة، مع تسابق الليل والنهار.. ولهذا فإن المكان الذي ولد فيه كان مشاعًا فيه كل شيء، وأهمها الطعام والمسكن.. وهو الأمر الذي لم يظهر بعد أهمية وجود الدولة كتنظيم عال، إلّا بعد أن زاد العدد، وزادت الحاجة إلى عملية تنظيم، وحين تحوّلت الأرض المشاعة التي فيها كل شيء، إلى البحث عن الزراعة لإدامة الطعام تحول الصراع من أجل اثبات الوجود والأحقية.. كان الصراع الأول هو التوسع ومن ثم تنظيم هذا التوسع في المكان المشاع قبل أن يتحوّل إلى عملية غرزٍ وجودي لفهم الغرس الحاجاتي.. ولهذا فإن التحوّل الأول كان البحث عن شكل التنظيم الإداري الذي يكون فيه ما يشبه الاقطاعيات الزراعية، التي تدير الريع المشاع في المكان الذي يوفّر حاجات الإنسان من مأكلٍ ومشرب ومبيت.. ربما ببساطة كانت تلك أول مخرجات تكوين الدولة التي تتغيّر بحسب مخرجات المكان والعهد والعصر، الذي تنولد فيها متغيّرات المكان، وبالتالي متغيّرات تكوين الدولة التي تختلف من جهة أرضيةٍ إلى أخرى بحسيب القارات، بعد توسّع مفهوم الدولة والحاجة، وهو الأمر الذي أدّى إلى نشوء الصراعات الأولى بين التكوينات الجديدة، سواء كانت دولًا على شكل قبائل، أو ما يطلق عليه المجموع القبلي أو العرقي أو القومي أو اللغوية، وهو موجود في المجتمع الزراعي حصرا، وكان التمدّد للبحث عن (ريعيات) أخرى خارج السكن لأن حركة الإنسان الأولى كانت غير محكومةٍ بدساتير مكتوبة، بل باستخدام القوّة، وهو أمر تفرضه القيادة التي تحكم هذه المجموعة البشرية أو تلك، وهو ما جعل الحروب إحدى أهم مميزات وجود
الإنسان. لكن المتغيّر الذي جعل الأمر يتغيّر من البحث عن (ريعيات) مشاعة حيث ما تنبت الأرض وما تبطن لاستخراجه، حين تحوّل العصر إلى الصناعة فكان مفهوم الدولة قد تغيّر وصار المشاع، الذي يعني تقسيم الموجود على الجميع عبر الحكم الإقطاعي الزراعي إلى حكم الرأسمال الذي تتبنّاه الدولة عبر رأس المال، حينها لم يعد الأمر مشاعا أو ريعيا توزّع ما لديك وما تحصل عليه من الحروب والغزوات، بل بولوج طرقٍ جديدةٍ لمفهوم الدولة، الذي تحوّل من الانتماء القبلي أو العرقي إلى الانتماء الإنتاجي، لا يفرق بين هذا الجنس أو ذاك أو بين الانتماء وبين الفكر، بقدر تأتي به زيادة الانتاجية وما يزيدها، وهو ما غيّر مفهوم الدولة والحكم من كونه انتماءً عقائديا إلى انتماء إنتاجي، وتحوّل الصراع من كونه مشاعا ريعيا إلى مشاعٍ علمي، وهو الأسلوب التي اتّخذته بعض الأحزاب الأيديولوجية، التي تمكّنت من تحويل الصراع من كونه توسّع لبحث عن مكانٍ ريعي، إلى البحث عن مكانٍ يجلب رأس المال، ويجعل الشعوب الأخرى مشاركة في الإنتاج عبر استغلال ما لديها من ثروات
وبشر.
إن نشوء الدول في المفهوم العام ليس ثابتا أيضا، فهو يحكم الدولة الواحدة التي تكوّنت عبر التاريخ، بحسب ما يتولّد لديها من ممكنات التغيّر وحصول المتغيّر، وبحسب الزمن الذي تنبثق منه. فالدول الصناعة كانت تعاني من سطوة الكنيسة، ولهذا كانت الدولة تنتهج الفهم الديني لإدارة كيانها، وصار كلّ شيء يتّجه إلى الكنيسة، باعتبارها الراعية في تنفيذ الفكر أو المنهج الذي يجب أن يعيش فيه الإنسان الذي يخضع لفكرها، وهو الأمر الذي جعل مفهوم الدولة من الدينية إلى الصناعية، بعد أن وجدت إن المشاركة تعتمد على الإنتاج والفائدة المادية وليست
الروحية.
وهكذا بالنسبة للدول التي تنشأ حديثا، فهي تتبع نظامها الذي تسير عليه، وهو ما جعل الأمر يبقى صراعا ما بين المشاع ثم الريع الذي تديره الدولة إلى الصناعي الذي يدير العمل بحسب الجهد والمشاركة، وهو ما يعني الانتقال من الإقطاع إلى رأس المال، ومن ثم تشظّت مفاهيم الدول من قبليّة إلى عسكريّة إلى تجاريّة إلى صناعيّة إلى عقائديّة بحسب الحقبة التي تنولد فيها هذه النظرية، التي تنتهجها القيادة أو السلطة أو
القوة.
وبالتأكيد ما بينهما يكون الانتماء الخاص هو الذي يسود سواء أكان دينيا أم قبليا أم تنظيمات نقابية أو فئويّة محدّدة، ليبقى الصراع ذاته، هو البحث عن القوة لاستمراريتها إثباتا للوجود.