ابراهيم العبادي
أضاع العراق فرصا عظيمة لتنمية اقتصاده، وأهدر مئات المليارات من الدولارات تزيد بمرات على ما أنفقه مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية (13 مليار دولار في حينه تعادل 120 مليار قيمة شرائية حالية) كما أن ما بدده العراق كان يفوق ما وظفته كوريا الجنوبية لتتحول من دولة فقيرة إلى نمر اقتصادي مخيف.
لو اتيح لباحثين عراقيين تحديد سبب الفرص الضائعة والتردي الراهن لأجابوا باتفاق كبير إنه ادارة الحكم والسياسة.
يقارن العراقيون بين عهدي الملكية العراقية والعهود الجمهورية اللاحقة، ويظهر بوضوح أن ما بنته الملكية وما أسست وخططت له من بنى تحتية في ظرف مالي شحيح يفوق ما بناه الجمهوريون بوفرة مالية كبيرة، ثم حين يُقارن ما دخل في خزانة العراق من أموال في عهد جمهورية ما بعد 2003، يتبين أن ثمة (فشلا) عراقيا كبيرا في التخطيط وإدارة الموارد المالية والبشرية، وفي استغلال الامكانات والفرص الدولية المتاحة.
قد يقال إن الدكتاتورية هي السبب، وهذه علة غير تامة، فكوريا الجنوبية لم تستقر سياسيا ولم تبن نفسها بالصورة، التي بلغتها الا بعد انقلاب الجنرال بارك شون هي (حكم كوريا من 1961 إلى اغتياله عام 1979)، فقد خسر الكوريون الحريات، لكنهم ربحوا نهضة اقتصادية عظيمة عبّدت الطريق لحياة سياسية مستقرة واداء اقتصادي مبهر.
وقد يقال إن سبب الفشل في العراق كما يردد البعض من اتباع الاتجاهات القومية والدينية هو تكالب القوى الدولية، بمعونة قوى إقليمية على منع العراق من بناء نفسه واشغاله بحروب داخلية وخارجية؟ لماذا، لأن العراق جمجمة العرب عند القوميين، وحاضرة الدنيا عند الاسلاميين السنة، وعاصمة الدولة المهدوية عند الاسلاميين الشيعة، ولؤلؤة الفكر والثقافة والحضارة عند النرجسيبن الوطنيين، والتهديد الأخطر على اسرائيل عند المقاومين،…!!، فهو لفرادته وخصائصه الحضارية والتاريخية والجغرافية والسكانية ممنوع عليه أن يحظى بالاستقرار وينعم بالازدهار، ويعيش كما يعيش (الكفار)، فأهل العراق مخلوقون للآخرة لا الدنيا، ومكلفون بتكليف خاص مرتبط بالتخطيط الإلهي لآخر الزمان، وحظهم من الدنيا أن يبنوا نماذج للثورة والرفض والكرامة من وجه واحد، الكرامة المعنوية لا المادية، فالفقر والفاقة وسوء نوعية الحياة والحرمان النسبي والفساد والطبقية والزبائنية وقسوة المناخ وتغيرات البيئة، أعراض طبيعية وأثمان مقبولة وضريبة مدفوعة عن طيب خاطر للمهمة الكبرى والجائزة العظمى، خلاف ذلك فإن الحكمة والروية والاعتدال والتوازن بين متطلبات الاستعداد للمهمة الدينية والقومية الكبرى، وبين بناء الذات والعيش الكريم، والاستفادة القصوى من الموارد، والحرص الشديد على استثمار الفرص والوقت والعمل، ضرب من التفكير الدنيوي المتغرب والخضوع لضغط الواقع وتخل عن الرسالية والانقلابية، وترف فكري في زمن لا وقت فيه للتفلسف والتفكير والنقد وبناء النموذج الدنيوي، الذي يجعل الناس تتجه إلى عالم المعنويات بهدوء واتزان. المسؤولية في هذه المحنة تقع على عاتق ثلاثة عقول، العقل الذي يحكم، والعقل الذي ينظّر، والعقل الذي يدير، واذا ما حاولت الرجوع إلى اصل المشكلة ستجد أن وراءها التكوين الاجتماعي والسياق الثقافي العراقي، فالعراقيون بلا أولويات، لايعرفون ماذا يريدون، مواجهة اسرائيل وتشكيل جيش القدس؟، ام بناء الدولة والمجتمع لغاية صناعة ميزان قوى معرفي ونفسي ومادي يستطيع المواجهة الفعلية لا اللغوية والخطابية؟.
هذه القضية لاينبغي أن تترك للمزايدة السياسية والحزبية، كما عاشها العراق منذ خمسينيات القرن الماضي، وأصبحت سلاح السلطة لجلد المجتمع والتحكم بمصيره، او سلاح الثوريين في قبال غير الثوريين من معتنقي مبادئ مدرسة الواقعية السياسية.
لحظة العراق الراهنة تملي على أصحاب العقول السياسية المرنة استثمار فرصة لا يمكن تعويضها، فحيث يتجه النظام العالمي إلى التغيير، وتعيش المنطقة اهتزازات سياسية وسباقات مصالح واصطفافات وتحالفات سرية لمواجهة زلزال التغيير واحتمالاته ومآلاته، مع سيطرة الغموض والاضطراب وصعوبة التنبؤ، يتعين التفكير بمصير العراق خلال الاعوام الثمانية القادمة، أي لغاية عام 2030.
هل سيبقى العراق دولة اتحادية بحدوده السياسية، التي حددتها سايكس- بيكو والاتفاقية العراقية التركية عام 1926؟
ماذا لو تحققت سيناريوهات الجفاف والتغيرات البيئية الأسوأ واضطر العراق لمقايضة نفطه بالماء؟ أي معادلة حكم تستطيع البقاء والانجاز اذا استمر الاقتصاد الريعي يعمل وفق سياقه الحالي، تذبذبات مالية (وفرة - شحة) وبطالة ومجتمع لا ينتج وبلاد لا تصدر غير النفط وصراع حزبي - مافيوي على المال والسلطة، وعشائر تتقاتل على المصالح، وقوى فوضوية تقاتل دون اهداف ليست من أولويات غالبية المجتمع؟
البنك الدولي يقول أمام العراق فرصة محدودة لاجراء اصلاحات قاسية لتعديل المسار، الورقة البيضاء لا تسير كما خطط لها وزير المالية، الزعامات المتصارعة ليست في عجلة من أمرها، فمصالحها فوق مصالح العراق وأمته!،
احتمالات اضطراب سوق الطاقة العالمية وسوق الغذاء والفقر والجوع والهجرة والجفاف، تهدد استقرار الدول والعلاقات الدولية، فأوروبا والعالم ما بعد حرب اوكرانيا غير ما قبلها!.
العراق يحتاج إلى خطوات إصلاحية مؤلمة، وعلاقات دعم واسناد خارجية قوية، واستثمارات ينبغي أن يجتذبها بحرص ومسؤولية، يحتاج إلى رؤية اقتصادية يتبناها النظام والمجتمع ويطبقها ويراقبها يوما بيوم، ليصحح ويعدل ويفكك في اختناقاتها وأخطائها،
يهرع العالم سنويا إلى منتدى دافوس السويسري العالمي، ليتحاور ويناقش في قضايا السلام والتنمية والهجرة ومخاطرها والديمقراطية وتقلباتها، والاستثمار ومشكلاته، والأسواق وتحدياتها، استمعنا إلى مرافعات ساسة ووزراء وستراتيجيين ومحللين يحترمون عقول الناس، ووزراء ومدراء عرضوا لمشاريعهم وافكارهم وخططهم، بشر يسابقون الزمن لوضع حلولهم لمشكلات العالم موضع تنفيذ وتطبيق، العالم كله صار مكشوفا ومتشابك المصالح في كل شيء، فما يجري في ايطاليا يؤثر في حياة البرازيليين كما كانت تقول مسرحيات دمشق السبعينية، أوكرانيا هزت العالم ومعاول بوتين تحطم أساسات سبعين عاما من بنية دولية خطط لها الكبار، العراق يحتاج إلى دافوس لوحده، يستنفر العالم كله ويجمع عقوله علّه يخط مسارا معقولا يعيد للعراق الأمل والعمل من أجل غدٍ أقل قتامة، وأكثر إقناعا لاجياله المتشائمة، سوء التفكير والتخطيط والادارة والتنفيذ يحتاج إلى (ثورة) معرفية مجتمعية، وإلى عقلٍ كعقل الجنرال بارك تشون هي، أو نموذج مسلم كنموذج ماليزيا أو أندونيسيا.