ملفات إيران على طاولة السلطان
قضايا عربية ودولية
2022/05/30
+A
-A
جواد علي كسار
الدبلوماسية السرية جزء لا ينفك عن العمل الدبلوماسي العام، وهي في كثير من الأحيان أعظم وقعاً وأشدّ تأثيراً من الدبلوماسية العلنية، لكن ما أقلّ من يتقنها، لا ريب أن سجلّ هذه الدبلوماسية في منطقتنا، يشهد بدور متميّز لدولتين هما الجزائر وسلطنة عمان، أثبتت أدوارهما خلال العقود الأربعة الماضية، أنهما الأقدر من غيرهما في فك الملفات المعقّدة، واحتواء الأزمات وتخفيف التوترات، وهما يمارسان ذلك كلّه بهدوء ملفت بعيد عن الضجيج والصخب، ولغة الادّعاء والتظاهر والتبجح وإطراء الذات، وعن الزهو، وهذا ما دفع طهران لتفعيل الباب الخلفي مع سلطنة عمان مجدّداً، عبر الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني رئيسي إلى مسقط الأسبوع الماضي.
شهادة الوزراء الثلاثة
مرّت تأسيسيات الملف النووي الإيراني عبر حلقات مكثّفة، طافت بجنيف ونيويورك وموسكو وأنقرة وبغداد وبرازيليا والدوحة، لاسيّما في نطاق ما يُعرف بمجموعة (5 + 1)، بيدَ أن هذا الملف لم يشهد تقدّماً حقيقياً كما شهده على خط موازٍ من الدبلوماسية السرية الهادئة عبر بوابة مسقط، هذه البوابة التي لم تجد طهران وربما واشنطن معها، بداً من العودة إليها مرّة أخرى.
يشهد على دور سلطنة عمان التأسيسي ويوثّق له، شهادة متعاضدة غير متقاطعة ولا متعارضة، لثلاثة وزراء خارجية إيرانيين عاصروا ملف النووي وعملوا به، وكان لهم دورهم الفاعل في تكوينه وصياغة أولياته؛ هم الوزير الأسبق علي أكبر صالحي، والسابق محمد جواد ظريف والحالي حسين عبد اللهيان؛ إذ أجمع هؤلاء الثلاثة على دور مباشر ومتميّز لسلطنة عمان، لاسيّما المستشار الخاص سالم الإسماعيلي ووزير الخارجية السابق يوسف بن علوي، وعلى رأسهم جميعاً الراحل السلطان قابوس (1940ـ 2020م).
لقد راجعتُ شخصياً ولأكثر من مرّة، ما كتبه صالحي وظريف وعبد اللهيان عن دور سلطنة عمان، في التمهيد لعقد الاتفاق النووي عام 2015م، وقارنته مع ما جاء في كتاب "القناة الخلفية" لوليام بيرنز، الذي حمل صفة مهندس الاتفاق النووي الإيراني، فوجدتُ إجماعاً إيرانياً - أميركياً ليس فقط على أهمية الدور العماني، بل شهادة مجللة على نزاهة هذا الدور وأمانته وحياديته، وهذه شهادة نادراً ما تصدر عن طهران في تنزيه دور الوسطاء.
أمّ القرارات
في ظلّ سياسة العنتريات مع الخارج والشعبوية في الداخل، استخفّ "رجل الألفية الثالثة" على حدّ عنوان أحد أشهر عناوين الكتب المادحة له؛ الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، بما يمكن أن يصدر من قرارات مجلس الأمن ضدّ إيران، وذكر نصاً بأن لا قيمة لها، وهي لا تساوي بنظره قيمة الحبر الذي كُتبت به.
لغة الاستخفاف هذه التي تذكرنا بمواقف شبيهة لها، مع الحكام الفرديين والمستبدين الغارقين بالنرجسية وأوهام العظمة وانتفاخ الذات؛ كلّفت إيران ستة قرارات صدرت ضدّها من مجلس الأمن على عهد أحمدي نجاد (القرارات: 1696، 1737، 1747، 1803، 1835، 1929)، وأخطرها القرار الأخير (1929) الذي صدر بتأريخ 9 حزيران 2010م، واكتسب صفة "أمّ القرارات" لأنه جامع لما سبقه، وكان من علائم خطورته أنه جاء بإجماع الخمسة الدائمين، بما في ذلك روسيا والصين، وقد كان تصويتهما للقرار صدمة لأنصار محور طهران وموسكو وبكين، ودالة على أن المواقف السياسية تحرّكها بوصلة واحدة هي المصالح؛ هي الثابتة وما سواها متغيّر.
مقاربة ظريف
عندما صدر القرار المذكور في حزيران 2010م، كان وزير خارجية إيران السابق محمد جواد ظريف، مطروداً من عمله في وزارة الخارجية، بعد أن عزله أحمدي نجاد من موقعه ممثلاً دائماً لبلاده في مقرّ الأمم المتحدة بنيويورك، منكباً على نفسه في عزلة ذاتية داخل بيته، لاسيّما بعد إحاطته بقيودٍ عرقلت عليه حتى مزاولة النشاط التدريسي في جامعات بلاده. مع ذلك طُلب منه وضع مذكرة خاصة لتقويم القرار وتبعاته، وكيفية التحرّر من ضغوطاته الاقتصادية والأمنية والسياسية على إيران، ففعل.
لقد قدّم ظريف في مذكرته التقويمية بتأريخ 15 حزيران 2010م وصفاً للقرار، وكيف أنه يعدّ أطول قرار صادر عن مجلس الأمن ضدّ الجمهورية الإسلامية وأكثرها ضبطاً وإحكاماً، وهو يتكوّن من (24) بنداً تمهيدياً، و(38) مادّة إجرائية تنفيذية، معهما أربعة ملاحق، نظمت جميعاً في (18) صفحة.
ضمن فقرة خاصة من المذكرة المطوّلة لخص ظريف تبعات القرار على إيران، بست مجاميع من المخاطر، ذكر في الثانية منها أن القرار يستبطن في أحشائه وداخل تجاويفه الخفية، خطر عمل عسكري أممي ضدّ إيران (موسوعة النووي، الكتاب الأول، ص 59 – 90).
كثيرون في طهران لاسيّما داخل الخط العقلاني المعتدل، شبهوا القرار (1929) بصيغة القرار (687) الذي صدر ضدّ العراق بتأريخ 3 نيسان 1991م، وتحوّل إلى قاعدة لعزل العراق ومنعه من التصرّف بثرواته واقتصاده وبجيشه، وفرض الهيمنة عليه والتحكّم بسيادته، خاصة أنه أكدّ على جميع القرارات الثلاثة عشر التي صدرت قبله، وآلت نهاية المطاف إلى الحصار ثمّ سقوط النظام عام 2003م.
ممن تبنّى هذه المقاربة بين القرارين (1929) و(687) هاشمي رفسنجاني، وقد راح يحذّر بأن إيران إن لم تبادر لفعل شيء ما، فهي مقبلة على السيناريو العراقي بحذافيره، مروراً بالحصار، والنفط مقابل الغذاء والدواء، ثمّ العمل العسكري المباشر. وفي واحد من هذه التحذيرات، استشهد بسفيرهم في نيويورك يومها محمد خزاعي، الذي قال نصاً: "أقولها بضرس قاطع، إن هدف هؤلاء هو النفط مقابل الغذاء، وهم يسعون لجرّنا إلى المآل نفسه الذي انتهى إليه العراق"، (المصلحة، نصوص هاشمي رفسنجاني، ج 2، ص 271).
البداية مع ولايتي
لقد سقنا هذه المقدّمات لنكشف كيف تبلور دور سلطنة عمان في تأسيسيات الملف النووي الإيراني، فبعد هذا القرار راح النفط الإيراني يعاني من مشكلات الحصار، وكان لشركة النفط الإيرانية أسطول مكوّن من نحو (74) ناقلة، أصبح خارج الخدمة. التقى الرئيس التنفيذي للشركة المهندس المشهور له بالكفاءة محمد سوري، بعلي أكبر ولايتي مستشار الشؤون الدولية في مكتب المرشد (موقع مساوٍ لوزير الخارجية في السلطة الموازية) وأوضح له تعقيدات العقوبات، فسأله ولايتي بصراحة: هل من سبيل لرفع العقوبات عن الأسطول؟ فردّ المهندس سوري بصراحة أكبر: ليس إلى ذلك من سبيل إلا بالاتصال السري مع أميركا، عبر وسيط من الأصدقاء مثل تركيا أو الصين أو سلطنة عمان.
استبعد ولايتي تركيا ووافق على الصين أو سلطنة عمان، وقد تمّ الأمر فعلياً مع السلطنة، لاسيّما مع الدور الناجح الذي كانت لعبته مسقط قبل أشهر من ذلك، في حلّ مشكلة ثلاثة من متسلقي الجبال الأميركان، هم سارا شورد وشين باير وجاشوا فتال، ألقت السلطات الإيرانية القبض عليهم واتهمتهم بالتجسّس، وكاد الأمر يتحوّل إلى أزمة رهائن صغيرة (بالمقارنة مع رهائن السفارة أواخر عام 1979م) لولا تدخّل سلطنة عمان على خط الوساطة بين البلدين، انتهت فعلاً بإطلاق سراحهم مقابل إطلاق سراح اثنين من رعايا إيران أحدهما في أميركا والآخر في بريطانيا، هما الدبلوماسي نصرت الله طاجيك والسيدة مير قلي خاني، وقد أُعتقلا بتهمة شراء كاميرات ليلية متطوّرة محظورة على إيران، بموجب العقوبات.
هذا النجاح مع اقتراح المهندس سوري وتوجيه ولايتي، جاء حاسماً لصالح دور عمان في قيادة الوساطة السرية بين إيران وأميركا، وقد "أدّى إلى فتح خط مباشر على أعلى مستوى بين إيران ومسقط"، (الموسوعة النووية، ج 1، ص 95).
الرسالة التائهة!
لعب د. سالم الإسماعيلي المستشار الخاص للسلطان الراحل قابوس، دوراً في تهيئة أجواء التواصل السري بين واشنطن وطهران، وكان من بين ذلك ما أُطلق عليها "الرسالة التائهة"، وهي رسالة مكتوبة بالإنكليزية مكوّنة من خمس كلمات فقط "بناء الثقة لبدء حوار جديد" (بدون تاريخ ولا إمضاء!)، سلمها الإسماعيلي لمسؤول الارتباط الإيراني في مسقط، الرجل الثاني في السفارة حسن قشقاوي، وهو متجه إلى طهران، مصحوبة برسالة شفوية من واشنطن، نصها "السيناتور جون كيري جاهز للتفاوض"، وقد طلب إيصال الرسالتين (المكتوبة والشفوية) إلى وزير الخارجية علي أكبر صالحي.
تطوّرت الخطوات سريعاً لكن بهدوء وسرية تامة، ففي الوهلة الأولى لم يعبأ الوزير صالحي بطلبات أميركا للتفاوض المباشر عبر سلطنة عمان، بيدَ أن إلحاح الأميركان وإصرار العمانيين، جعلاه يفكر بالأمر جدياً، فأملى مذكرة من أربع نقاط لكي تكون أساساً للتفاوض، اكتسبت بعد ذلك وصف "وثيقة صالحي"، وطالب في المقابل مذكرة مكتوبة من الأميركان بدلاً من الصيغ الشفوية.
اتجهت الأمور إلى التقارب أكثر، عندما استقبل السلطان قابوس المهندس محمد سوري حامل مذكرة وزير الخارجية صالحي، ودام اللقاء لمدّة ساعتين كاملتين، ما يكشف عن جدية الأمر، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن معدل ما يخصّصه السلطان لضيوفه لا يتجاوز النصف ساعة في العادة. بتأريخ 4 كانون الثاني 2012م التقى السناتور كيري بالسلطان، وقدّم ورقة مكتوبة إلى قابوس، كي تكون إطاراً مقترحاً للمفاوضات المباشرة، وبدوره حرص السلطان على أن يكون المرشد السيد علي خامنئي هو صاحب القرار في المبادرة، وأن يكون الوفد الإيراني المفاوض مخولاً من أعلى الجهات المسؤولة في إيران.
رسالة السلطان
تدافعت الحوادث بعد ذلك، فمن جهة راح وزير الخارجية صالحي يتعامل بجديّة أكبر مع المبادرة الأميركية، لكن المشكلة كانت في الرئيس أحمدي نجاد، الذي لم يتفاعل معها (على الأرجح لأنها انطلقت من خارج ردائه!)، لكنه لم يعرقل، إنما الذي عرقل سير العملية السرية كثيراً هو "المجلس الأعلى للأمن الوطني" وأمينه العام سعيد جليلي، إذ كان يرى ومساعده علي باقري كني (المسؤول الحالي عن الملف النووي الإيراني) أن مبادرة مسقط تمثل عملاً موازياً لا جدوى من ورائه، خاصة أنه كان حسن الظنّ جداً بمسار المفاوضات في إطار (5+1) ويركز كثيراً على دور موسكو الإيجابي في هذا المشروع، مع أن روسيا والصين صوّت كلاهما على القرار الموجع (1929) ضدّ بلده.
في المقابل، تبنّى رئيس البرلمان الإيراني يومها علي لاريجاني المبادرة، ودافع عنها ولايتي في مكتب المرشد والمسؤول الأمني فيه السيد علي أصغر حجازي، في مقابل موقف متحفّظ من وزارة أمن وشخص وزيرها حيدر مصلحي.
هذا التجاذب والشدّ دفع الوزير صالحي لحسم الأمر عبر كلمة فصل من المرشد. في البدء اعترض المرشد في لقاء مع صالحي على المبادرة، لكنه أبدا موافقة مشروطة، وأذن لفريق الخارجية بالانطلاق بالتفاوض السري المباشر، على أن يتمّ التنسيق بين الخارجية والرئاسة ومجلس الأمن الوطني.
عند هذه النقطة حرص السلطان قابوس على إعطاء زخم للمبادرة بعد أن اطمأن لجديّة واشنطن، فاتصل هاتفياً بالرئيس أحمدي نجاد، ثمّ أرسل مستشاره الخاص الإسماعيلي إلى طهران، وقد تفاجأ صالحي أن الإسماعيلي يطلب اتصالاً هاتفياً بين السلطان والمرشد، لكن وزير الخارجية دفع الأمر بلباقة، وتداركه معتذراً بعدم وجود بروتوكول خاص ينظم هذه الممارسة، ما دفع السلطان إلى بادرة مزدوجة حاضرة ومؤجلة؛ الحاضرة هي بعث رسالة مكتوبة إلى المرشد، والمؤجلة هي زيارة قام بها فعلاً إلى طهران، بعد أن انطلقت دورة المفاوضات السرية الأولى في مسقط بين الإيرانيين والأميركان.
فجر يوم 25 شباط 2012م وصلت رسالة السلطان قابوس الخاصة والسرية إلى السيد علي خامنئي، وقد حملها المستشار سالم الإسماعيلي، واستلمها في طهران مكتب المرشد بترتيبات خاصة ومعقدة، بواسطة د. علي أكبر ولايتي مستشار المرشد للشؤون الدولية، بعد أن اطلع على نسخة منها وزير الخارجية علي أكبر صالحي، وقد حُوّلت بعد أيام إلى "مجلس الأمن الوطني" لإعداد الجواب المناسب. كانت هذه الرسالة المفتاحية هي الشرارة التي أطلقت جولة المفاوضات السرية الأولى في مسقط وبرعاية السلطان قابوس شخصياً، بين الإيرانيين والأميركان بتأريخ 10 حزيران 2012م، ثمّ تلتها أربع دورات لاحقة، عُرفت بـ"مسقط 1- 5" تمخّضت أخيراً عن لقاء مباشر بين السلطان الراحل قابوس والمرشد السيد علي خامنئي في آب 2013م، قبل أن يتجه الطرفان إلى توقيع الاتفاق النووي بينهما عام 2015م.
درسنا الأخير من استعراض هذا الملف، أن الدول من حولنا توظّف الاقتصاد والسياسة والأمن، والدبلوماسية العلنية منها والسرية، والعلاقات الصغيرة منها والكبيرة، وتوظف العقائد والأفكار والأيديولوجيات والشعارات وجميع المتغيرات، بحثاً عن ثابت واحد هو مصالحها، فالثابت الأوحد في ستراتيجيات السياسة الإيرانية هو مصلحة إيران، وكلّ ما عداه متغيّر قابل للتفاوض
وإعادة النظر.