عطية مسوح
قلنا في مقالة سابقة إنّ أهمّ ما تقوم عليه المواطنة هو الاشتراك في الوطن والتساوي أمام القانون. ويعني ذلك في الفكر السياسيّ الحديث عدمَ التمييز بين المواطنين على أساس قوميّ أو دينيّ أو طائفيّ أو حزبيّ أو قبليّ أو جنسيّ، والنظر إلى الفرد، بوصفه مواطناً حرّاً مساوياً لغيره أمام القانون. وبيّنا أنّ التساوي يكون مطلقاً من ناحية الحقوق الأساسيّة أو الطبيعيّة، ونسبيّاً من ناحية الحقوق المضافة التي تنتج عن المركز الإداريّ، على أن يكون الوصول إلى هذا المركز عن طريق تساوي الفرص، أي دون تمييز أو تحيّز أو محاباة.
وسنذكر – تأكيداً لما قلناه – عبارات موجزة لأحد كبار النهضويّين العقلانيّين العرب، وهو طه حسين. جاء في كتابه (مرآة الضمير الحديث) الصادر عام 1949 ما يلي:
«ليس كلّ الناس قادراً على التفوّق والابتكار، ولكن من حقّ الناس جميعاً أن تتهيّأ لهم أسباب التفوّق والابتكار. وأوّل ما يجب لذلك أن يتاح للشباب، وللشباب خاصّة، ما ينبغي لهم من الحرّيّة.»
إنّ كلام طه حسين يؤكّد تساوي الفرص للجميع ولا سيّما لمن يعوّل عليهم المجتمع في نهوضه، أي الشباب. ولا تقتصر إشارة طه حسين في الفقرة المذكورة على تساوي الفرص وإنّما تؤكّد مبدأ آخر من مبادئ الحكم الصحيح وهو الحرّيّة. وواضحٌ أنّه يعني الحرّيّة التي تسهم في بناء الشخصيّة ومساعدة الشبابّ على التفوّق، أي حرّية التفكير والتعبير عن الرأي والبحث والنقد والنهل من الثقافات المتنوّعة.
يحيلنا ذلك إلى ثنائيّة العدل والحرّيّة، وهي الثنائيّة التي تناولها طه حسين في أكثر من كتاب: (في الصيف – مرآة الضمير الحديث – ألوان). إنّها إحدى الثنائيّات التي انشغل بها الفكر الإنساني من زمن بعيد، وتناولها المفكّرون والباحثون في حقل المواطنة منذ أوائل القرن الثامن عشر، فلا تخلو كتب المنوّرين الأوربّيين الذين مهّدوا فكريّاً للثورة الفرنسيّة من التطرّق لهذه المسألة، وهي بارزة في كتاب المواطنة الأهمّ في القرن الثامن عشر (العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسيّة) لجان جاك روسو الصادر عام 1762 (نقله إلى العربيّة عادل زعيتر مع مقدّمة هامّة وصدر عن مؤسّسة الأبحاث العربيّة ط2 1995) وهو في الأساس مقالة كتبها روسو بعنوان (أصل التفاوت بين الناس)، تناول فيها العدلَ ومكانه في العقد الاجتماعيّ، أي في أساس المواطنة السياسيّ. /ولنا وقفة خاصّة قادمة مع أوّل كتاب عربيّ عن المواطنة هو (مواطنون لا رعايا) الصادر عام 1951 للمفكر خالد محمّد خالد/. أمّا ما نريده في هذه المقالة فهو بيان أنّ مفكّري المواطنة بحثوا كثيراً في أوّليّات حقوق الإنسان، وهل هي الحقوق السياسيّة أو الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة؟
في هذا الموضوع نجد تيّارين كبيرين متعارضين في النظر إلى أفضليّات حقوق الإنسان، هما: التيار الذي يقدّم الحقوق السياسيّة على غيرها، ويهمل أو يكاد الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ويرى أنّ الحرّيّة تعني حرّيّة التفكير والتعبير والعمل والربح، وهذه هي الرؤية الأساسيّة لليبراليّة الاقتصاديّة التي عبّر عنها الشعار المعروف (دعه يعمل دعه يمرّ). ولا يفكّر أصحاب هذه الرؤية – إلاّ مضطرّين – بأوضاع العاملين المنتجين الحياتيّة.
أمّا التيّار الثاني فهو يقدّم الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة على الحقوق السياسيّة، ويضع تعارضاً بين العدل الاجتماعيّ والعدل السياسيّ، أي إنّه لا يفصل بين الليبراليّة الاقتصاديّة وما ينتج عنها من استغلال وظلم، والقيم السياسيّة الليبراليّة التي دعت إليها الرأسماليّة الناهضة حين كانت تحتاجها في معركتها مع الإقطاع والمؤسّسة الدينيّة الملتصقة به. لقد أصبحت تلك القيم راسخة في الفكر السياسيّ والضمير الإنسانيّ، وصار لها استقلالها النسبيّ عن الحكم والمصالح المباشرة، ولم يعد من السهل إلغاؤها أو تجاهلها وإن ضاق الحكّام والمتنفّذون ذرعاً بها.
وفي القرن العشرين برزت هذه المسألة بروزاً حادّاً بوجود النظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ، ونكاد نقول إنّ العالم انقسم على أساس تقديم حقوق الإنسان الاقتصاديّة على حقوقه السياسيّة أو العكس. ومقابل استهانة الدول الرأسماليّة بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة استهانت الدول الاشتراكيّة بالديمقراطيّة والحقوق السياسيّة، وأخذت بعض دول العالم الثالث بإقامة أنظمة أمنيّة قمعيّة تحت شعار العدالة وحماية الكادحين. لقد قدّمت تلك الأنظمة بعض المكاسب للفئات الكادحة لكنّ الديمقراطيّة السياسيّة كانت مفقودة، ففقدت معها مبادّئ المواطنة، ثمّ ما لبث فقدانهما أن أودى بتلك المكاسب ذاتها، ومكّن لقلّة من المتنفّذين ورجال السلطة الاستئثار بها ونهب الدولة ذاتها، فضاعت الحقوق الاقتصاديّة للإنسان بضياع حقوقه السياسيّة.
وبالمقابل، ظلّت الأنظمة الرأسماليّة على عدم اكتراثها للعدالة الاجتماعيّة. برغم محاولتها في بعض الدول تخفيف التوتّر وإرضاء الكادحين عن طريق سياسة الضمانات الاجتماعيّة، ثمّ ظهرت نظريّة الطريق الثالث للمفكّر الإنكليزي أنتوني جيدنز (راجع كتابه: الطريق الثالث – تجديد الديمقراطيّة الاجتماعيّة. ترجمة أحمد زيد ومحمد محيي الدين وإصدار الهيئة العامّة المصريّة للكتاب عام 2010 )، ولكنّ الطبيعة الاستغلاليّة للرأسماليّة لم تتغيّر.
ولعلّ أهمّ دروس القرن العشرين هو أنّ العدل والحرّيّة متكاملان، والمواطنة الحقيقيّة لا تكون إلاّ بتكاملهما. وقد تكون مهمّة دعاة الاشتراكيّة في عصرنا فكّ الارتباط بين القيم السياسيّة الليبراليّة والنظام الرأسماليّ، فتلك القيم هي حصيلة نضال إنسانيّ متراكم، وهي التي تمكّن الكادحين من النضال للحصول على حقوقهم وحمايتها، فالاستبداد والعدل لا يجتمعان.
كاتب وباحث من سورية