جواد علي كسار
في ستينيات القرن الماضي كتب السيد محمد الصدر مذكرة عن علم أصول الفقه، أراد لها أن تكون إطلالة معرفية لحاضرة النجف الأشرف على العالم.
في مقدّمة هذه المذكرة أشار إلى التراكم العلمي لمدرسة النجف على مدار ألف عام، لا سيّما على صعيد الدراسات الفلسفية والتشريعية، منبّهاً على همم رجال كبار أفرزتهم هذه المدرسة ولا تزال، يعوزهم عدم أو قلة التفاعل مع الخط العام للمعرفة الإنسانية، ومفكري العالم؛ وهي الظاهرة الناشئة برأيه عن عزلة جامعة النجف الأشرف ورجالها ومناهجها
ومواقفها.
عند تحليل هذه العزلة الفكرية أشار الصدر إلى مجموعة أسباب، منها ما هو اجتماعي وسياسي، وما هو تأريخي وثقافي، وما هو منهجي، والحصيلة دائماً هي الانفصال عن: «المحيط الفكري العالمي». وقد كان من أخطر ما رصده الصدر في تحليل الانعزال، وعدم التفاعل مع الأفكار والعلوم، أن اتخذ البحث العلمي في هذه الحاضرة: «مساراً عقلياً معيناً، ووجهة خاصة في التفكير والتغيير» جعلت الدرس الحوزوي يجنح صوب الدقة والتعقيد العقلي التجريدي، ما أدّى إلى أن تكون: «الأبحاث العلمية في الجامعة النجفية عسيرة الفهم، على من اعتاد ارتياد المسار الفكري العالمي السائد».
صارت لهذه الظاهرة نتائج خطيرة، ظهرت على مستوى بروز عاهات في مسار الفكر ومنهج التفكير، والأخطر من ذلك اجتماعياً ازدياد حجم الجهل بالعلوم الدينية، لإغلاق التعبير والاصطلاح والتفكير، ونمو جدار التفاصل بين الحوزة والمجتمع، ما دفع المجتمع أن يعيش: «القابلية التامة على تلقي المبادئ الوافدة من وراء الحدود» بعد الفراغ الكبير الذي راحت تعيشه: «الذهنية العامة في مجتمعنا الإسلامي، من التفكير في الدين
أو معرفة جوهره» دائماً بحسب تحليل السيد الصدر
ونصوصه.
من المؤكد أن حالة النجف الأشرف اليوم في التفاعل مع السياسة والمجتمع أفضل مما كانت عليه في الأمس، لكن هل تحسّن الأداء على المستوى المعرفي، من حيث تطوّر التفكير، وتجديد منهج البحث، ولغة الخطاب وأسلوب التعبير، والابتعاد عن الطابع الفرضي والتجريدي؟ سؤال يقع الجواب عليه برسم الحاضرة النجفية، وما يقع عليها من مسؤولية في النهوض بأعباء المعرفة الدينية في العراق وخارجه.