أحمد عبد الحسين
الرغبةُ والعاطفة ثم المعرفة، ثلاثة أقانيم وضعها إفلاطون لتفسير كلّ سلوك إنسانيّ ممكن. الرغبة مرتبطة بالمنفعة "الماديّة والمعنوية معاً"، وهي المحرّك الأقوى لكلّ ما يعمله البشر تحت الشمس، وأمرها ظاهر واضح، تليها العاطفة بآلياتٍ أكثر تعقيداً، فكثير مما نحبّه ونهيم به لا نستطيع إقامة علل منطقية له، ثم المعرفة وهي الأصعب والأندر وتستلزم وقتاً وجهداً وبحثاً، وكلّ ما عرفتَه أكثر زادتْ فرص تعلقك به. المقولة العلوية "الناس أعداء ما جهلوا" تشير إلى هذا المنحى. فالمعرفة سبب للحبّ.
نحن بالفعل محكومون بهذه الأقانيم الثلاثة في كل فعل نباشره. أفكّر الآن ـ بمناسبة ذكرى استشهاد السيد محمد صادق الصدر ـ بالأسباب التي جعلت الملايين مشدودة إلى شخصه وكلامه وإيماءاته وكلّ ما يصدر عنه في زمنٍ كان الاقتراب منه، مجرد الاقتراب، مدعاة لمشكلات كبرى مع سلطة بينها والرحمة جدارٌ من نار.
كثير منهم لم يقرأ كتب الصدر، وأجزم أن خمساً وأربعين خطبة ألقاها على الجمهور لم تشتمل على معارفه الحقّة المبثوثة في كتبه "منّة المنان أو الموسوعة أو الإشراقات"، بل كانتْ مجرد خلاصات موجهة لجمهورٍ كان مأخوذاً بالمثال الذي صنعه الصدر أكثر من انشغاله بمعارفه.
لم تكن المعرفة هي التي حكمت العلاقة بين الصدر والهائمين به، ولا الرغبة "إذْ ما الذي يعطيهم إياه زاهدٌ لا سلطة دنيوية له وهو يواجه خطر القتل كلّ آن؟" بل العاطفة وحدها. الوجدان الذي ملخصه أنّ هؤلاء الناس لم يروا مثالاً كهذا من قبلُ، لم يشهدوا هم، ولم يحدثهم آباؤهم عن مرجع دينيّ كان وسط جموعهم، وكان درسه حياة تُعاش لا محاضرة تلقى كتابة أو مشافهة.
أساطين العرفاء عرّفوا الشهادة بغير تعريف القتل في سبيل الله، قالوا إنّها التنزّل من مرتبة عليا إلى أخرى أدنى لا لإكمال النفس فقط بل لإكمال آخرين. كتنزّل الوليّ الكامل إلى نشأته الترابيّة لإنقاذ مَنْ في التراب.
بهذا المعنى كان تنزّل محمد الصدر من مقامه العلميّ وما تفرضه شؤون المرجعية، ومن مقامه المعرفيّ، بل من مقامه العرفانيّ أيضاً إلى وسط الجمهور الذي التقط هذا المثال وأحبّه كما لم يحبّ مثالاً آخر.
بالمعنى العميق، كان تنزّله هذا هو الاستشهاد حقاً قبل أن تنطلق إليه رصاصات الطاغية بوقت طويل.