أ. د. نجاح هادي كبة
لم يكن الاستعمار القديم المتمثل بسيطرة دولة على أخرى موجوداً تماما في العصر الحديث، بل ظهر نوع من الاستعمار بغطاء الامبريالية والكولونيالية هو الاستعمار الجديد، وقد استخدم الثقافة الاستعمارية، ومن المعروف أن الثقافة لم تكن مقصورة على النواحي الجمالية والفن، بل هي (أسلوب شامل للحياة) بحسب أدوارد سعيد
هذا التعريف الشمولي للثقافة سوّغ للاستعمار الجديد على التغلغل في الدول الأخرى، وانعكس ذلك على أنواع مختلفة من الثقافة كالأنثروبولوجيا والروايات لتكون هوية الدول المستعمرة، يقول أدوارد سعيد، وبحسب ما أسماه بالقراءة الطباقية، (فقديما كان الصراع بين الملوك والأباطرة، ثم بين الشعوب (المقصود الدول القومية)، ثم بين الأيديولوجيات، وبعد انتهاء الحرب الباردة نشب الصراع بين الحضارات مع حلول النظام العالمي الجديد (أدوارد سعيد، قراءة في فكره وتراثه، خالد سعيد،ط1،بيروت،2011 ص124)، وذلك من خلال الخارطة الجغرافية للمستعمر (اذ كلما خلصت أبحاث المهتمين الأوروبيين حول خصائص الثقافات غير الأوروبية إلى ما أسموه تدنيا حضاريا، مقارنة بنموذجهم الثقافي، تضخمت لدى إدارتهم السياسية والعسكرية، وكذا مؤسساتهم الفكرية عقدة التفوق والتمركز حول الذات أكثر فأكثر، والنتيجة أنه (باسم العقل والعلم والتقدم.. برزت نزاعات فكرية تصب كلها في مصب واحد، هو تكريس فكرة تقديم الانسان الأوروبي وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم (تمدينه) (ونشر الحضارة ) في أرجائه، ومن اهم هذه النزعات، النزعة التاريخية والنزعة التطويرية والنزعة العرقية العلموية والنزعة الاستشراقية الاستعمارية)، (الأنثروبولوجيا الثقافية، الزهرة إبراهيم، دار النايا دمشق،ط١، 2009،
في:46- 47 ).
إن هذه النزعات العرقية و... الخ وظّفت أساليب عقلية وعلمية في طمس المستعمر لهوية الشعوب، في حين كان الاستعمار القديم المتمثل بالغربيين يتدخلون (في جميع شؤون هذه الجماعات لتبديل أنماط حياتها وسلوك أفرادها، بأساليب تتسم بالتحيز وعدم الفهم لواقع هذه الجماعات.
ويلاحظ ذلك مثلاً في أساليب الإدارات الاستعمارية البريطانية، التي اتبعت في أفريقيا والتي أطلق عليها مصطلح (التغيير الحضاري الموجه) أو السياسات الادارية الفرنسية في القارة، والتي أسميت (بعملية التحضر المخطط) (ما الأنثروبولوجيا؟ د. قيس النوري، دارالشؤن، بغداد 2022،ص:58)
ولا بدّ من الإقرار بأن أسلوب الغزو الفكري أكثر خطورة من الأسلوب العسكري والأساليب المتممة له، أو المعبرة عن مضمونه، أو بغرض الإرادة الاستعمارية، وتحقيق السيطرة التامة أو شبه التامة.
ذلك لأن الاحتلال بالقوة يؤدي إلى كسب الأرض، لا إلى كسب العقل البشري وبمستطاع المغلوب استرداد الأرض ما دام العقل قادرا على أن يحافظ على حيويته ودوره) (تأملات في الحضارة والاغتراب، عزيز السيد جاسم، دار الشؤون، بغداد، ط3 ص: 58)، وقد أسهم علماء وفلاسفة في دعم الاستعمار الجديد وهذا ما (لم... يحترمه آنذاك جميع المستشرقين الذين منهم من ظل خديما (للرؤية الأيديولوجية للبرجوازية الأوروبية، وظل فكرهم في كثير من عناصره يدور في فلك النزعة الأوربية القائمة أساسا على الاحتكار الذي أملته المعطيات السياسية للمرحلة)، (الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية، المصدر السابق
ص 49).
لكن لامناص إذن، في عالم اليوم، المحكوم بالمثاقفة وسقوط الحدود والحواجز بين البلدان والأجناس والديانات والثقافات، من تقبل منطقي ومسؤول لفكرة (التعددية الثقافية أو الهجنة التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم- لا تؤدي بالضرورة إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلي المشاركة، وتجاوز الحدود وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة) (الأنثروبولوجيا، والأنتروبولوجيا الثقافية، المصدر السابق، ص:59)، وقد يكون من نافلة القول إن المثاقفة لا تأتي، إلا من خلال الوعي الفكري والشعور بانسانية الانسان وتغليب الانسان مصلحة الآخر على مصلحته، التي تتصف بـ (أنا)، وجعلها تتصف بـ (نحن) البشر.