أحمد عبد الحسين
ما من شعبٍ يظلّ سليماً بكامل عافيته بعد ديكتاتورية نصف قرن وسلسلة حروب مضحكة في أسبابها مبكية في نتائجها وحصار وحرب أهلية وغياب أمن وقتل على الهويّة وانقسام طائفيّ وتفجيرات وغلبة فاسدين وتحكّم فاشلين وانتفاضات مغدورة
ويأس من التغيير.
هذا ملخص ما حدث لنا، وهو كافٍ لجعل أي شعبٍ مريضاً. حين يتعلّق الأمر بالصحة النفسيّة فإنّ ما يحدث للفرد يحدث عيناً للمجموع. رضّة نفسية تورث الإنسان شيزوفرينيا دوام عمره، ورضة جماعية كالحرب أو الخوف العموميّ أو المجاعة أو غياب الأمل تجعل الشعب كله مصاباً بالفصام.
حين صُدمتْ أوروبا بوحشيتها نهاية الحرب الأولى وأحصت قتلاها بالملايين، اضطربت شعوبها اضطراباً عنيفاً؛ حوّلت ألمانيا إذلالها والتنكيل بها إلى ارتكاس قوميّ فأنتجت النازيّة التي ستنتقم لاحقاً من أوروبا، وفي الفنّ والأدب كان الجنون يضرب يمنة ويسرة ليعبّر عن هذه الشيزوفرينيا الجماعية، فكانت الدادائية ثم السوريالية ومسرح العبث علامة جسدٍ ممسوس بالكارثة.
ما رأيناه ـ نحن العراقيين ـ من أهوال يفوق ما مرّ على أوروبا، لكننا نجاهد لنبدو أصحاء ونتعاطى مع الوضع كما لو أنّ كلّ رضّة عميقة تصيبنا سرعان ما تُنسى ما إن تحلّ كارثة جديدة، والحال ليس كذلك حتماً. فلكلّ حدث أثر، يأكل من صحتنا النفسيّة أكثر مما يأكل من ضحايا بشرية وخسائر ماديّة.
نحن مرضى. ربما يجب علينا تقبّل هذه الحقيقة لنستطيع تفسير ما نشاهده في المجتمع من هلاوس واعتقادات كاذبة وعدوانيّة وغياب اللياقة في التصرف والحديث وغياب الرادع الأخلاقي وانتشار التقوى الكاذبة والشذوذ وانشغال كلّ منا بالآخر أكثر من انشغالنا بأنفسنا. من لا يصدّق ذلك فليدخل فيسبوك.
نحن مرضى ويزيد من مرضنا أننا لا نعترف به. مرضى غياب الأمل، مرضى البين بين، لأن الرضّة هي الضربة التي لا تهشمك تماماً ولا تميتك فتَنسى وتُنسى لكنها لا تتركك سليماً أيضاً. كالرضّ في الزجاجة أقسى من الكسر، تجعلك محكوماً بعذاب أبديّ.
بعد كل الجهنمات التي مررنا بها، تسلطاً وحروباً وقمعاً، كان الشعب بحاجة إلى مصحّ، إلى راحةٍ وهدوء، فكانت المفاجأة أن جهنمات جديدة بانتظاره انقساماً وحرباً أهلية وفساداً وفشلاً وسرقات وانفلات سلاح وانتفاضات مغدورة.
نحن هذا المريض الذي يكابر فلا يعترف بمرضه، وإذا اعترف لن يجد وقتاً للراحة ولا مصحة ولا طبيباً.