علي حسن الفواز
يمكن تفسير خواء الحضارات المعاصرة من خلال خواء السياسات، وفشلها في السيطرة على العالم، وفي تبريرها المهووس لمواجهة تداعيات فشل المفهوم القديم لـ"صراع الحضارات" الذي روَّجت له أطروحات هنتغتون، إذ بات الصراع- اليوم- مكشوفاً، بلا مرجعيات ناعمة، وبلا جنوسة ولا دعايات سينمائية، وأقمار صناعية، وأنَّ أهدافه تكمن في السيطرة، وفي إخضاع الآخر إلى لعبة "النفس الطويل" دون مراعاة مظاهره المرعبة في الجوع والبرد والهروب القسري من الأوطان والأمان.
فشل الولايات المتحدة، في مواجهة عالم ما بعد الحرب الباردة تسبب في صناعة صراعات أخرى، لها معطياتها الثقافية والسياسية وحتى العسكرية، إذ بدت العولمة وكأنها تصنع نوعاً من "الحضارة السائلة" مثلما بدت الرسملة الرقمية وكأنها تقودنا إلى حربٍ أكثر نعومة، لكنها أكثر توحشاً وقسوة، فضلاً عن التهديد بالعسكرة الاحتلالية، وإلى ما تصطنعه من خطابات وأدلجات عنصرية تتجاوز فكرة إصلاح العالم إلى السيطرة عليه.
الحرب الروسية الأوكرانية قوّضت النعومة الرأسمالية، وكشفت عن رعبها، ودفعت الغرب والروس إلى ما يشبه "صداماً" له قناع إيديولوجي، وأفكار صاخبة تختلط فيها العسكرة بالاقتصاد، واللغة بالعزل الأنثروبولوجي، إذ انفضحت "خشونة" العقل الأوروبي الذي طالما بشّر بسحره الفيلسوف الألماني هيغل، بوصفه عقلاً تنويرياً وحداثياً وإصلاحياً، ولعل ما يحدث اليوم من صراع، ومن نزوع للسيطرة، ومن شهوة غير مسبوقة للتسليح الفتّاك، يضع الجميع أمام "عري حضاري" وخطر مفتوح للحرب النووية، وهي بطبيعة الحال ليست حرباً للحوار والاستشراق، بل هي حربٌ تقوم على فكرة المحو، وأحسب أنَّ الغرب يخشى هذا الخيار الغامض، وحتى خيار التورط الكامل مع الرهانات الأميركية، لكن فرضية الأمركة، والدولار والليبرالية الجديدة ستبقى حاضرة، وربما تهجس للأوروبيين بروح مارشال القديم..
نهاية أسطرة "صراع الحضارات" تحوّلت إلى أسطرة قلقة، وهي ليست بعيدة عن "صراع السياسات" وطبعاً هذا الصراع ذو الخيال النووي، لا يمكن التعايش مع أشباحه، لأنَّ السياسة رغم أوهامها وإغواءاتها، تظل فن الواقع، وأنها محكومة بالمصالح وليس بالثقافات والأدلجات، وهو ما يعني أنَّ أعراض الخواء والعطب ستكون تعبيرا عن الفشل والعجز، والتي ستجعل من "حكام العالم" الجدد أكثر استعداداً لأنْ يكونوا مهرجين، و"مشعلي حرائق" وتجار أسلحة، ولا همَّ لهم سوى التفكير بعقدة "نهاية التاريخ وأسطرة الإنسان الأخير" الذي أشاع خدعتها الفيلسوف فوكوياما.