أحمد عبد الحسين
وصل المستقلّون إلى مبنى البرلمان وهم يعرفون أن أمامهم امتحاناً عسيراً يضاهي مخاض الرفض الذي أنتجهم ونمّاهم منذ 2011 وصولاً إلى الذروة في تشرين. كانوا يعرفون ما سيجابههم، لكنّ جمهورهم، لأقلْ أغلب جمهورهم لم يكن يعرف، وإذا عرف لا يريد أن يصدّق.
جمهور المستقلين صعب لأنه جمهور احتجاج ثائر. وجمهور الثورة تتحكم به شعارات الثورة ذاتها "الطهرانية ونبذ أنصاف الحلول والتقذر من التفاوض وكراهية المساومة ونشدان التغيير الآن وليس غداً"، وهذه أليق ما تكون بلحظة الساحة لا بلحظة البرلمان، وأقرب إلى هواء مشبع برائحة مسيل الدموع منه إلى هواء مكيّف في قاعة.
جمهور النوّاب الحزبيين التقليديين لعبتهم مختلفة وقد أتقنوها منذ عشرين سنة بحيث أصبحوا مؤسسة إعلامية لها حضورها في السوشيال ميديا والفضائيات. اللعبة تتلخص بالتالي: انصرْ نائبك ظالماً أو مظلوماً، صادقاً أو كاذباً، أزلْ كل العثرات من طريقه، مهّدْ له، دافعْ عنه، ولا تنتقده أبداً. وكلّ شيء بثمنه.
لم يحظَ النوّاب المستقلون بجمهورِ عشيرةٍ كهذا. خرجوا من ضنك الاحتجاج إلى ضنك جمهور متطلّب، ومن قرقعة التكتك إلى أصوات زاعقة عليهم كثيرة الانتقاد كثيرة السخرية. وأتفهّم هنا جيداً مَنْ يريد استعارة خطاب المؤامرة ليظنّ أن للأحزاب التقليدية يداً في التحريض على خطاب كهذا وإشاعته.
ظهر الانقسام سريعاً في صفوف النوّاب المستقلين. هذا طبيعيّ. مهما كتبنا قصائد في مديح الصدق والنزاهة فإنّ الواقع يهزأ بنا ويثبت لنا كلّ يومٍ أن الصادقَ قويٌّ في نفسه لكنه هشّ خارجاً، يحترم ذاته ويتطابق معها لكنّه لن يستطيع مزاحمة الآخرين والتدافع معهم بالمناكب. لكنّ الذين أدمنوا اللعبة أقوياء مرهوبون خارجاً برغم هشاشتهم الداخلية في عين أنفسهم وعين من يعرفهم جيداً. وبمقارنة بسيطة بين صادق وكاذب على طاولة المداولات السياسية نعرف من سينتصر ويسحر الجمهور ويحوز الذهب. في قصيدته "الرجال الجوف" كتب إليوت "نحن الرجال الجوف يسند بعضنا بعضاً".
المستقلون لم يسندهم أحد بعد أن استنشقوا هواء البرلمان، لأنّ المقادير حبتهم بجمهور يطلب ثمناً فورياً لاحتجاجه، وشعاره "كلّ شيء أو لاشيء"، وشعاره الآخر "الآن الآن وليس غداً". وكان يمكن لقليل من الواقعية أن يغيّر الكثير.