صناديق فارغة

العراق 2022/06/08
...

أحمد عبد الحسين
 
حين سقطتْ تماثيل الطاغية كنّا نظنّ أنّ بانتظارنا كنزاً من المدوّنات الأدبية والبحثية وآلاف القصائد والقصص والروايات كتبها أصحابها سرّاً وادخروها في صناديق مغلقة ليوم مستحيل كهذا. لكنْ هيهات. كانت الصناديق فارغة، وكان المثقف عندنا ينشر كلّ ما يكتبه أولاً بأوّلٍ، فلا شيء مدّخَر أو مخبوء.
اكتشاف هذا الأمر كان بالنسبة لي صدمة، أنا البَطران القادم من كندا عبّرتُ عن دهشتي بعمل ملفّ كامل في ملحق الصباح الثقافي وقتها وأسميته "صناديق فارغة" أثار استياء جمهرة كبيرة من المثقفين آنذاك ولهم الحقّ، فما يشغل الناس زمن الحصار والحرب يترك المرء شلواً غير قادر إلا على ملاحقة ما يبقيه حيّاً، ثم إن الواقعة العراقية تأبى أن تدوّن لفداحتها، ناهيك عن أنّ تلاحق الأحداث وتسارعها مدعاة لفقدان التركيز، ثم هناك شيء آخر مؤكد: المثقف العراقي ملول، غير صبور، هو عدّاء مسافات قصيرة بارع لكنّه في السباقات الماراثونية أوّل المنسحبين.
نحن لا ندّخر شيئاً، ما نكتبه ننشره، وما ننشره هو بالضبط كلّ ما نكتبه بتمامه وكماله. وللآن يرسل لي كاتبٌ مقالاً أو نصاً وقبل أن أدفعه للنشر أجده منشوراً على صفحته الشخصية في فيسبوك. ليس الصبر أكبر فضائلنا.
هذا الأمر يفرض سياقاته على المكتوب، يجعله مشتملاً على كل ما يتوافق مع النشر وأعرافه وأخلاقياته؛ في حين أن النصوص الشواهد على زمنها كان في صميمها نحوٌ من أنحاء السرّانية، مكتوبة في الحاضر عن الحاضر لكنها مشدودة إلى زمن نشر مستقبليّ.
لا أظنّ أن أحداً ما يجلس الآن إلى طاولته وهو يفكر بتدوين اللحظة العراقية من دون أن يحدّث نفسه بدفع ما يكتبه للنشر غداً أو بعد غد، أو جعله فصلاً في كتابٍ يصدر قريباً. لأنّ الكتابة المدّخرة تحتاج إلى مَنْ لا يفكر بثمن فوريّ لعمله، وهذا أمر نادر.
كتبتْ الشاعرة العظيمة "آنا أخماتوفا" المعارضة للحقبة الستالينية أنها كانت تقف أمام معسكر للاعتقال مع طابور طويل من النساء المتشحات بالسواد يسألن عن مصير أبنائهنّ وأزواجهنّ، وجميعهنّ على وشك الانهيار من اليأس والتعب، فجأة التفتتْ إليها سيّدة تحمل صورة ابنها وقالتْ: عرفتكِ أنتِ الكاتبة المشهورة. ثم سألتها: هل ستكتبين عن هذا الذي نحن فيه؟ أجابتها أخماتوفا: نعم سأكتب كلّ شيء. تقول: فجأة أشرق وجه السيّدة بفرح غريب مبهم.
هذا الفرح المبهم نحتاج إليه. لكنْ من يخبرنا أنه سيكتب الكارثة التي نحن فيها؟.