بيتُ جحا

العراق 2022/06/09
...

أحمد عبد الحسين
لدينا وفرة أمثلة على الحقيقة التالية: أن من يريد احتلال دولة، عسكرياً أو عن بُعدٍ، يمهّد لذلك بأن يُفرغ هذه الدولة من هويتها أولاً وينزع عنها كلّ شيء ذي قيمة، يسلبها اقتصادها وقدرتها على إطعام شعبها ثم ينسيها ثقافتها وتاريخها إن استطاع. فعل مكتشفو الأميركيتين ذلك مع السكان الأصليين «المايا والأزتيك مثلاً» خُطتْ بالقلم الأحمر بربرية ووحشية هذه الحضارات وبولغ في تضخيم بدائيتها فثبتتْ صورة أن الأوروبي أتى ليستعمر أرضاً ليس فيها سوى جنس من الكائنات أقرب إلى الهوامّ لكنه يشبه الإنسان في مظهره. اتضح لاحقاً بعد قرون أن حضارات المكسيك كانت أكثر تطوراً وتمدّناً من أوروبا. ومنْ أراد الاستمتاع والاستزادة فعليه بكتاب غوستاف لوكليزيو «الحلم المكسيكي 
أو الفكر المبتور».
مثلهم تماماً فعلت “إسرائيل”، فهي أُسّستْ على مبدأ “أرضٌ بلا شعب لشعب بلا أرض”. أي أن فلسطين لم يكن فيها بشرٌ. الجريمة الكونيّة المتمثلة بقيام إسرائيل سبقتها وتبعتها شيطنة كاريكاتيرية للعرب والمسلمين في السينما والصحافة وبإلحاحٍ متواصل مضجرٍ ومملّ إلى أن اقتنع العرب أنفسهم، وصدّق المضحوك عليه أنه مضحك حقاً. 
ومثل ذلك يُفعل بنا نحن العراقيين، لم يعد للعراق هويّة حضارية أو تاريخية أو حتى ثقافية، استغنينا عن كلّ ذلك بهويّات صغرى، كالطائفة التي أفهمنا أننا لا نملك من أمرها شيئاً سوى الموت في سبيلها، أما سائر شؤون الطائفة المصيرية كتحديد المقدّس والمدنّس فيها، وصرفها على هيئة قوّة ومسكوكات، والغلّة السياسية والاقتصادية المتحصلة من كوننا طائفيين، فتلك موارد يتكفل بها جيراننا الأقوياء على أكمل وجه، 
ولا دخل لنا بها.
الذين يريدون احتلال العراق عن بُعدٍ، بالقوّة فإن لم يستطيعوا فبالعقيدة فإن لم يستطيعوا فبالمخدرات وذلك أضعف الإيمان. هؤلاء يهمهم أن لا يكون في العراق شعب، وإن وجد فيجب أن يكونوا بُهماً لا وطنية لهم إلا وطنية من يماثلهم في الطائفة، ولا تاريخ لديهم إلا التاريخ الذي يقرره لنا الأوصياء الأقوياء.
الطائفة كانتْ لها صبغة عراقية لا تخطئها العين السليمةُ منذ أبي حنيفة وابن حنبل تسنناً؛ ثم الشيخ المفيد والطوسيّ تشيّعاً، وظلتْ تمتزج بالروح العراقيّة وتشكّل هويتنا. لكنها اليوم، جرياً على قاعدة إفراغ العراق من تاريخه وسلب أنفس مقتنياته، أصبحتْ مسمار جحا على حائط غرفة صغيرة من غرف بيتنا.
لكنْ في صباح الغد سيأتي جحا، ولن يطالب بمسماره ولا بالحائط بل بالبيت كلّه.