ديمتري افييرينوس: للشعر جذورٌ عميقةٌ في الرؤى اللاهوتيَّة
الصفحة الاخيرة
2022/06/14
+A
-A
حاوره: حسن جوان
ديمتري أڤييرينوس كاتب وباحث ومترجم يوناني، يجمع الثقافتين العربية واليونانية، سوى لغات وثقافات عديدة، ومعارف في شتى مناحي واختصاصات العلوم والآداب. من ترجماته: بيان عبر المناهجية (بسراب نيكولسكو)، فلسفة اللاعنف (داڤيد مكرينولدز)، ماذا أنت فاعل بحياتك؟ (ج. كريشنامورتي)، المعبد الذهبي (يوكيو ميشيما). كتب مقالاتٍ ودراسات عديدة في علم نفس الأعماق والبُعد الباطن للأديان من منظور الحكمة الخالدة. ويعد أبرز مترجمي ودارسي قصائد الهايكو، له العديد من المؤلفات عن التصوف الإسلامي والمسيحي وبحوث في الثيوصوفية، التي يعتبر مرجعا فيها. تواصلنا معه فكان هذا الحوار الخاص بـ «الصباح».
*هل يعاني الهايكو العربي من مأزقَي التعريف والتجذر، كما سبقته إلى ذلك قصيدة النثر؟
- المقارنة مع قصيدة النثر غير جائزة برأيي، وذلك لأسباب عدة سنأتي على ذكر بعضها. فمنذ ولادة قصيدة النثر في الشعر الغربي، في ألمانيا وفرنسا تحديدًا، وليس ثمة اتفاق على ماهية ناجزة للشعر النثري. هناك فقط اتفاق على خصائص. كأن يقال بأن الشعر النثري كلام يُكتب بنيويًّا على هيئة نثر، بالاستغناء عن التقطيع الشعري التقليدي، لكنه يستعمل حتمًا لغة وإيقاعًا شعريين، مثل تجزئة الجمل، التكثيف، السجع، الجناس، ألوان المجاز، كالاستعارة والكناية بأنواعهما، إلى آخر ما هنالك من أدوات الشعر. ورأيي هنا أن هناك قصيدة نثر عربية– أي نابتة من دينامية الثقافة العربية وجمالياتها الشعرية– أصيلة ورفيعة، تنطبق عليها هذه الخصائص. ومنه، فإن المأزق المزدوج الذي ذكرتَه هو مأزق زائف، لا يثيره إلا الاتباعيون.
جدير بالذكر هنا أن باشو، المؤسس الحقيقي للهايكو بوصفه لونًا شعريًّا مستقلًّا عن الرنگا (الشعر المتسلسل)، اشتغل على تطوير الهايبون، وهو شكل من أشكال النثر الشعري يتكامل فيه النثر والهايكو في لون من الكتابة السردية متعددة الأبعاد. في الهايبون، الذي يتناوب فيه النثر والشعر، يسرد الشاعر نثرًا، بلغة "موضوعية" لا تخلو من الشعرية، خبرة حياتية مر بها، ثم يعبر شعرًا (بهايكو أو أكثر) عن الخلاصة "الذاتية" التي خرج بها من هذه الخبرة. أشير هنا عَرَضًا غلى أني أتابع محاولات كتابة الهايبون بالعربي، ورأيي أنه لا يوجد حتى الآن نص عربي يعبر عن فهم فعلي لوظيفة كل من النثر والشعر في الهايبون. فأغلب ما يُكتب في هذا السياق لا يمت إلى الهايبين ولا إلى الهايكو بصلة، بل لا يمت إلى الأدب أصلًا!
فليُسمح لي الآن أن أتحفظ على تعبير "الهايكو العربي". ليس هناك هايكو "عربي"! هناك هايكو يُكتب بالعربي، مثلما يُكتب بالإنجليزي وغيره من الألسن. الهايكو لون شعري خاص جدًّا، ذو أصول أكيدة في الشعر الصيني، نبت في اليابان بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، واكتسب مع باشو استقلاليته كلون شعري بحد ذاته تحت مظلة الهايكاي. إنه قصيدة مكثفة تأليفها متطلب جدًّا لأنها تقوم على قواعد بنيوية ومفاهيم فلسفية وقيم جمالية محددة ومتكاملة، وضعها الأساتذة اليابانيون المؤسسون، مثل باشو وأونتسورا وچيوني– تلك الشاعرة المتفردة– الذين سار على نهجهم بوسون وتلامذته وإسَّا وشيكي وكيوشي وسواهم، على الرغم من ظهور تشعبات عديدة لاحقًا، من حيث التحرر من التقطيع التقليدي أو الاستغناء عن الكيگو (الإشارة إلى فصل السنة) أو التشديد على مفاهيم فلسفية معينة أو الدخول في الحداثة، إلى آخر ما هنالك. ورأيي أنه لا يوجد هايكو أصلًا دون استيعاب هذه القواعد والمفاهيم والقيم. ولو لم يدرك أوائل الغربيين المتأثرون بالهايكو فرادته– بنيةً وفلسفةً وجمالياتٍ– دون الأنواع الشعرية المكثفة الأخرى لما استبْقوا التسمية، ولما احتفوا بخصوصيته أصلًا! إن أزمة ما يسمى "الهايكو العربي" ناجمة عن أنه استقدم الشكل دون فهم حقيقي للبنية والفلسفة والجماليات، وأراد "تعريب" الهايكو لغويًّا فقط – علمًا أننا لو دققنا في قضايا البنية والفلسفة والجماليات هذه لوجدناها تتصف عمقيًّا بالعالمية، ويتسم بها كل فن عظيم خالد لأنها متجذرة في الطبيعة الإنسانية الواحدة. فلولا ذلك لاستغلق الهايكو الياباني على الفهم.
هناك ثلاثة أمور على الأقل ساهمت في تفاقم سوء الفهم هذا. الأول أن الهايكو دخل العالم العربي أول ما دخل عبر ترجمات عربية سقيمة عن ترجمات وسيطة متفاوتة الجودة لم يقم بها شعراء هايكو. فمن حيث المبدأ، لا يجيد ترجمة الهايكو إلا هايجِن (شاعر هايكو) بكل ما في الكلمة من معنى. والثاني أن الهايكو هو من الأجناس الأدبية النادرة التي لا يصح التمرس فيها إلا مع/ بعد التتلمذ على أستاذ هايكو متمكن. وهؤلاء باتوا قلة، حتى في اليابان – فما بالك بالعالم العربي، حيث أمسى "أساتذة" الهايكو يتكاثرون بالبرعمة، وأكثرهم لا يفقه من روح الهايكو شيئًا! والثالث أن تفشي ما يسمى "الهايكو العربي" كان، لسوء الحظ، عن طريق الفيسبوك، حيث– بالتعريف– يسود الكم على النوع.
*تداوليًّا، لم تنجح النماذج الشعرية غير الإيقاعية أو الموزونة لدى المتلقي العربي. هل يعود ذلك إلى كونها نماذج مستنبتة خارج الحقل، أم أنها تخاطب نوعًا مغايرًا من الوعي الشعري؟
- دون تعميم، تميل الذائقة الشعبية إلى الإيقاع المبني على الوزن وتكرار القافية لأن القصيدة بذلك تغدو أسهل حفظًا، هذا ينطبق على الشعر العامي التقليدي مثلًا، لكن تاريخ الأدب الحي هو تاريخ مشرع على رياح الاقتباس والتجديد. ولولا وجود حاجة عميقة لدى بعض الشعراء إلى التحرر من الإيقاع الخارجي البحت، ومن النمطية الذهنية السائدة لما ظهرت قصيدة النثر والشعر الحر إلخ. ولقد تزامن ظهور الألوان الشعرية الجديدة في العالم العربي مع مخاض "الفرد" – وهو مخاض عسير! – الذي يعكس تعبيرُه الشعري همومًا اجتماعية وتساؤلات وجودية جديدة أكثر "عمودية"، إذا جاز القول، وأقل تماهيًا مع الجماعة التي تعيد إنتاج وعيها ذاته، همومًا وتساؤلات تلامس المشترك الإنساني غير المحدود بزمان أو مكان. ومنه، فإن للأشكال الشعرية الجديدة روادها ومتذوقيها عند "أفراد" من العرب تحديدًا، أفراد باشروا استقلال وعيهم الفردي عن الوعي الجمعي.
في ما يخص الهايكو، وبصرف النظر عن استسهال بعضهم كتابته تمويهًا لموهبة شعرية ضحلة أو حتى معدومة، يتطلب دخول هذا الشعر بالذات حساسية فائقة، تتصف بقابلية التجاوب الآني مع اللحظة. وهذا التجاوب ذو شقين متكاملين: الأول قدرة على التقاط حسي دقيق للحظة شعرية، انطلاقًا من مشهد موضوعي، والثاني قياس صداها في دخيلة النفس وتسجيله شعريًّا. إن بنية الهايكو (بنيتيه بالأصح) ومفاهيمه الفلسفية وقيمه الجمالية مكونات لا غنى عن استيعابها لإدراك هذه اللحظة الشعرية وصياغتها، وذلك لأنها تتحول عمليًّا إلى أدوات شعرية عند بناء القصيدة. تذوُّق الهايكو يتطلب فعلًا وجود "وعي شعري" مختلف عن سواه، عند الشاعر والمتلقي على حد سواء، وعي يدرك أن اللغة الذهنية عنف ممارس على الطبيعة. الهايكو شعر غير ذهني. الأمر عبارة عن رياضة روحية، أساسها قبول أن العالم، بحد ذاته وبشتى تفاصيله، لا سيما مظاهره الهشة الزائلة، مفعم بالشعرية، وأن دور الشاعر هو دور الشاهد الفاعل على شعرية العالم. ومن هنا صعوبة قراءة الكثير من عيون الهايكو الياباني الكلاسيكي والهايكو الرفيع إجمالًا، ناهيك عن استساغتها شعريًّا. ومن هنا أيضًا، إصرار بعضهم على "تعريب" الهايكو، بمعنى تطويعه للذائقة الشعرية العربية، التي ما زالت تنظر إلى الشعر نظرتها إلى "صنعة". ورأيي أن مجرد المحاولة في هذا الاتجاه ينزع عن النص صفة هايكو. الحديث في هذا يطول.
* منذ بواكيره، ارتبط الشعر باللاهوت، حيث كانت الصلوات الأولى تُنشد قصائد شعرية. كذلك الأمر في الفلسفة، يقال إن إمبذوكليس آخر مَن كتب فلسفته شعرًا. ما هي جذور ودلالات هذه العلاقة أو الارتباط؟
- للشعر جذور عميقة في الرؤى اللاهوتية القديمة لأن لغته المنظومة (وفق ارتباط تقليدي بين الصوت/ الحرف والعدد) الجزلة، الفخمة، تناسب التعبير عن وحي السماء. إمبذوكليس فيلسوف ما قبل سقراطي، فيثاغوري الهوى، عاش في زمن كانت الفلسفة الإغريقية (الحكمة) متداخلة مع "النبوة"، إذا صحت المقارنة، أي ذات صلة مباشرة مع الآلهة؛ فمن الطبيعي أن يكثف رؤيته للكون شعرًا. افتراق الفلسفة عن الشعر بدأ مع أفلاطون الذي شكك في صحة "وحي" الشعراء. وقد استمر هذا الارتياب حيال الشعر مع اللاهوت المسيحي، وهو ما نجده في القرآن أيضًا: "والشعراء يتبعهم الغاوون" – مع أن لغة الوحي المكي مفعمة بخصائص الشعر النثري التي أشرت إليها. استمر هذا الارتياب، أقول، حتى ظهور الحركة الرومانسية في أوروبا، التي أعلت مجددًا من القيمة الإشراقية للشعر. يقول هولدرلن في قصيدة "پاتموس":
"والحبيبان يقيمان متجاورَين،
منهكَين، على أكثر الجبال تنائيًا."
مَن هما "الحبيبان"؟ يجيب مارتن هايدگر، مؤولًا، بأنهما الفكر (الفلسفة) والشعر، اللذان يفيضان أصلًا من منبع الوجود الواحد، ويترافقان للعودة إليه، إنما لا يلتقيان في الطريق، إذ يفصل بينهما وادٍ سحيق: طبيعة اللغة التي يترجم بها كلٌّ منهما خبرة الإشراق الوجودي. الشعر يترجمها بلغة "الغناء" (بالمعنى الإغريقي الأوسع) الذاتية، فيما يترجمها الفكر بلغة الدقة الموضوعية. إمبذوكليس آخر مَن كتب فلسفته شعرًا بين الإغريق، لكن "زرادشت" نيتشه عبارة عن قصائد نثرية غنائية طويلة.
عند شعراء الشرق الأقصى لم تنطرح هذه الإشكالية بالمرة لأن البُعد الإلهي للوجود لديهم ليس مفارقًا للعالم، متعاليًا عنه، بل محايث للطبيعة والبشر، متداخل معهما. ومنه، ففي الهايكاي، مثلًا، حلٌّ لهذه الإشكالية، حيث لا ينفصل فيه موضوع الفلسفة عن موضوع الشعر. يقول باشو:
التَمِسِ الصنوبر إن أردت أن تتعلم ماهية الصنوبر، أو الخيزران إن أردت أن تتعلم ماهية الخيزران. وأنت، إذ تفعل، عليك أن تترك اهتمامك بنفسك. وإلا فأنت تفرض نفسك على الشيء ولا تتعلم. ينبثق شعرك من تلقاء ذاته حين تصبح أنت والشيء واحدًا [...]. مهما تكن جودة عبارة شعرك، إنْ لم يكن شعورك طبيعيًّا– إنْ كنت والشيء منفصلين– فإن شعرك ليس شعرًا حقًّا، بل وهمك فحسب."
في كلامه هذا يضع باشو الشرط اللازم والكافي لاستعادة الشعر خاصيته "الموضوعية"، بحيث تتخلله نظرة فلسفية عميقة إلى العالم، نظرة منبثقة من الوحدة الجوهرية للذات والموضوع، لكن دون أن "يتفلسف".
* ألمحت إلى النظر نحو الشعر بارتياب دائم، وأذكر لك نظرة أخرى أشد عنفًا، تتمثل في محنة التصوف في تاريخنا الفكري والسياسي. لِمَ عانى التصوف هذه المحنة برأيك؟
- التصوف خبرة عالمية، لا يخلو منها أي تراث ديني إطلاقًا، كما لا تخلو منها أي خبرة شعرية وجودية عميقة. ينطلق التصوف، على تنوُّع مشاربه ومدارسه، من انطواء الإنسان– كل إنسان ناضج روحيًّا– على إمكانية خبرة روحية فردية متحررة من ضوابط سلطة التقليد الديني. بطبيعة الحال، لا أنت ولا أنا نقصد بالتصوف هنا "الدروشة" وحلقات الذكر الشعبية، بل الاختبار المباشر للبُعد الروحي المركوز في أعماق النفس الإنسانية: الإشراق الوجودي. هذه الاختبار، بطبيعته، يفتح لمكتشفه أفقًا غير محدود للتأمل والإبداع خارج الدروب المطروقة، ويهيب بصاحبه أن يطلب الحق والعدل خارج النفق الذي تراقبه السلطة الدينية– تلك السلطة التي كان ديدنها، تاريخيًّا، مداهنة السلطة السياسية. هناك أفراد تلمَّسوا الخبرة الروحية الفردية، لكنهم آثروا ربطها بالنظام القائم لئلا تتسبب في إحداث بلبلة في الدين باعتباره عنصر استتباب للوعي واستقرار للمجتمع. في المقابل، هناك قلة أرادوا إشاعة ثمرات هذه الخبرة على المجتمع مزيدًا من الحرية والعدل والرحمة. أرادوا لله أن يتنازل عن تعاليه وزجوا به في المغامرة الإنسانية للتخفيف من شقاء البشر. هؤلاء ثوار حقيقيون!
بالطبع، أول مَن يخطر بالبال في تاريخنا الحلاج الذي لو التزم الأحوط، كما نصح له بذلك الجنيد، لما كابد ما كابد. لكن روحه كانت أوسع من أن تُحدَّ بإطار. وكان، إلى ذلك، ثائرًا، صاحب مشروع مجتمعي/ سياسي بالمعنى النبيل للمصطلح؛ فاتصل بالقرامطة، لعله يجد عندهم وسيلة إلى ما يصبو إليه من تحقيق "المدينة الفاضلة". هذا هو سبب محنته الحقيقي، لا ما نُسب إليه من شطح وحلولية وادعاء
للألوهية.
على التوازي، ما فتئ الشعراء المجددون يعانون هذه المحنة إياها، وإنْ على نحو أقل مأساوية. والمقاومة التي تتصدى لهم ناجمة عن خروجهم على الإجماع وتوقهم إلى فتح أفق للتأمل والإبداع خارج نفق الاتباع، خارج المستنقع الذي ركد فيه الوعي الجمعي.
*ما الأثر الروحي والفكري الذي تركه إلمامك بثقافات متعددة، منها على وجه الخصوص الثقافة اليونانية والثقافة العربية؟
- منذ أن بدأت أعي ذاتي وسط هذا العالم الغريب والرائع وسؤالٌ ما انفك يلح عليَّ: "مَن أنا؟" ولا أبالغ إن قلت إن قوام وعيي الشخصي لا يزال حتى اليوم مجبولًا بهذا السؤال! وقد حالفني القدر في يفاعي بالتتلمذ على فيلسوف حياة سوري هو أ. ندره اليازجي، ساعدني على بلورة أسئلتي الوجودية، كما زرع في وجداني بذور عدد من المبادئ الإنسانية، من أهمها الصداقة – الصداقة التي تبدأ وتنتهي بصداقة النفس، أي بحل صراعاتها، ولا تبلغ ذروتها إلا في صداقة الناس أجمعين.
لا ريب أن ثقافتي الأصلية المزدوجة، اليونانية والعربية، لعبت دورا في تنبيهي إلى تفادي الوقوع في فخ الإجابات الجاهزة عن مسألة الهوية والانتماء، فهيأتْني لحسمها سريعا في نفسي. وقد قادتني تأملاتي، مدعمةً باطلاع عام على مختلف مناحي التراث الثقافي العالمي، إلى إدراك وحدة جوهر الطبيعة الإنسانية في ما يتعدى تنوع مظاهرها. ومنه، وجدتني من حيث لا أقصد أعتنق مفهوم المواطَنة العالمية الذي نادت به الفلسفة الرواقية منذ أكثر من ألفي عام. واليوم، لا يسعني إلا أن أتمثل في نفسي مقولة تيرنس القرطاجي، العبد السابق والكاتب المسرحي من القرن الثاني ق. م: "أنا إنسان، ولا شيء إنسانيا غريبا عني." وكوني مُواطنًا للعالم لا يتناقض مع تجذُّر وعيي في أكثر من ثقافة. بالمعنى الثقافي الإنساني، لست أقل "سورية" من أي سوري، ولا أقل "عروبة" من أي عربي. لكني، في الآن نفسه، يوناني وهندي، فرنسي وألماني، صيني وروسي، بمقدار ما تمثلتُ في نفسي وعقلي من العناصر الإنسانية الخلاقة في الثقافة اليونانية وثقافات الشرقين الأوسط والأقصى إلخ.
اهتمامي بالنتاج الإنساني لمختلف الثقافات ليس طلبًا للمتعة محض الأدبية، على أهميتها، وليس لاختزان المعلومات. إنه اهتمام روحي في المقام الأول. قراءتي لفلاسفة وكتاب وشعراء ملهمين، مثل لاوتزو وأفلاطون ومولانا الرومي وباشو ونيتشه ودوستويڤسكي ورامبو وكارل يونگ وأدونيس وكريشنامورتي، هي قراءة لنفسي في العالم، للإنسان في العالم، وللعالم في الإنسان، أي فيَّ. وشغفي بالهايكاي (الذي دفعني إلى محاولة تعلُّم الياباني)، قراءةً وترجمةً وتأليفًا، يدخل في هذا الباب حصرا.
*لنختتم بهذا السؤال- النصيحة: لو طلبت إليك أن تترك لي خلاصتك الفلسفية لأتخذ منها نبراسًا لنفسي، ما الذي ستترك لي... لنا؟
"من أنا؟"، أو بالأدق، "ما أنا؟" هو السؤال الأول الذي تتفرع عنه جميع الأسئلة. عشْ حياتك أنت، بأصالة خصوصيتك الفردية أنت، وتعلَّم من كل شيء وكل أحد، مفسحًا لهذا السؤال الحارق أن يتفتح في وعيك كل لحظة، دون أن تتبع أحدًا، ودون أن تطلب إجابة عنه. باختصار أكثر، كُنْ
سؤالك!