خلف دروع الناتو ضعف وانقسامات

قضايا عربية ودولية 2022/06/19
...

 سايمون تسدال
 ترجمة: أنيس الصفار    
سوء حسابات الجانب الغربي هو الذي مهد الطريق للغزو الروسي، وإذ تخوض قوات كييف الأدنى مقدرة وسلاحاً معركة من أجل البقاء يجازف التحالف بالوقوع في فشل كارثي آخر.
مهمة أي درع هي صد العدو وإظهار العزم، والدرع أيضاً شيء يحتمى به من أجل تجنب القتال. ومنذ أن غزت روسيا أوكرانيا اتخذ السياسيون في الولايات المتحدة وأوروبا، بدرجات متفاوتة من البسالة، منظمة حلف شمال الأطلسي لكلتا هاتين الغايتين.
 
ترى ما الذي سيحدث إذا انكسر الدرع أو أصابه عطب جوهري؟ هذا هو ما قد تكتشفه القوى الغربية وشيكاً. فمؤتمر قمة حلف الناتو في مدريد هذا الشهر يوصف بأنه أهم تجمع "تحولي" للحلف ستترتب عليه أخطر التبعات منذ حقبة الحرب الباردة، وبوسعنا منذ الآن أن نتوقع فيضاً من تبادل التهاني بشأن الكيفية التي توحدت بها ثلاثون دولة أعضاء في الحلف لحماية "العالم الحر" من العدوان الروسي، لكن ستبقى هناك علامات استفهام كبيرة.
في شهر آذار الماضي تحدث الرئيس الأميركي "جو بايدن"، الذي يعد الرئيس الفعلي لحلف الناتو، في مدريد محدداً النغمة، فتعهد بالدفاع "عن كل شبر من أراضي الناتو بأقصى شدة تتيحها لنا قوتنا المجتمعة"، على حد قوله، لكن من دون الدخول في حرب. مرت على ذلك أشهر ولا يزال موقف بايدن مبهماً إلى درجة تثير الغضب بشأن التبعات على المدى البعيد.
في الأسبوع الماضي ردد وزير الدفاع البريطاني "بن والاس" هذه النغمة في آيسلندا، حيث حذر من أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" قد يستهدف لثوانيا ولاتفيا وأستونيا في المراحل اللاحقة، لأنها في منظوره مثل أوكرانيا لا تمثل دولاً حقيقية. بيد أن بريطانيا، شأنها شأن بايدن، لم تتحدث عن خطة واضحة المعالم تضمن بقاء أوكرانيا بلداً مستقلاً.
لقد تقدم للمشاركة بهمة حلفاء عديدون بلا شك، لكن أعضاء أوروبيين مهمين في الناتو انكمشوا وراء تحالف كانوا يستهينون به ويهملونه، وهم الآن يستغلونه لتجنب توريط أنفسهم بتقديم التزامات باهظة التكاليف لكييف على المستوى الوطني قد تثير غضب 
موسكو.
عند الاستسلام لأحلام استقلال الاتحاد الأوروبي ستراتيجياً نرى أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" يفضل الأقوال على الأفعال، وأن المستشار الألماني "أولاف شولتز" أصدق مثال لنهج التهيب والمماطلة، أما رئيس الوزراء الهنغاري منتهك العقوبات "فكتور أوربان" فيبدو في أغلب الأحيان مراهناً على الفريق الآخر.
كذلك تسفر المحاولات الأنانية للرئيس التركي المناكد رجب طيب أردوغان، من أجل إفشال محاولات فنلندا والسويد اكتساب العضوية، عن تقويض الفرصة لتشكيل جبهة موحدة.
تبعاً لهذا سيتحتم على الأمين العام المسالم لحلف الناتو "ينس ستولتنبرغ" أن يناضل بشدة لمعالجة هذه التصدعات. خلال ذلك تطالب بولندا وباقي دول "المواجهة" بانتهاج خط أكثر تشدداً وصلابة يتضمن التمركز الدائم لقوات إضافية وأسلحة ثقيلة وطائرات على الحدود مع روسيا، بالمقابل يقدم مسؤولو الناتو وعوداً باتخاذ قرارات "تاريخية فعّالة".
أما بالنسبة لأوكرانيا فإن قيادتها على وشك التخلي عن آمالها في اكتساب العضوية التي وعدت بها في قمة الناتو في بوخارست 2008، كما كفت عن الدعوة إلى التدخل العسكري المباشر. قال وزير الخارجية الأوكراني "دميترو كوليبا": "بالطبع سوف نسمع كلمات التأييد والدعم .. ونحن ممتنون جداً لذلك"، لأنه بعد اتهامه الناتو في وقت سابق "بعدم القيام بشيء" لم يعد ينتظر أية إجراءات حقيقية ملموسة في مدريد بشأن الانضمام أو قضية "أمن البحر الأسود" على سبيل المثال.
الملاحظة الأخيرة فيها إشارة تذكير بالفشل الأميركي الأوروبي المستمر الذي لا يغتفر في التصدي للحصار غير المشروع الذي تفرضه موسكو على الموانئ الأوكرانية والتسبب بنقص الغذاء على نطاق عالمي.
هذا مجال واحد من مجالات عديدة يستطيع الناتو، بل ينبغي عليه، فيه أن يفرض مزيداً من الضغط على القوات الروسية لإقناع بوتين بضرورة إنهاء حرب الإبادة الجماعية هذه.
لماذا يتوانى الناتو عن تقديم المزيد؟ عند أخذ الأمر بمجمله نجد أن كل ما يطرح من مبررات عقلانية وأعذار لهذه السلبية والنكوص يرسم صورة تحالف أضعف وحدة وقوة وتنظيماً بكثير مما يتظاهر به 
معجبوه.
في بادئ الأمر أعطى دعم أوكرانيا حلف الناتو دفعة رفعت أسهمه، ولو بقدر محدود، من الحضيض الذي هوت إليه إثر الانسحاب المخزي من أفغانستان في السنة الماضية. لكن إذا ما واصلت مطحنة الحرب دورانها كما هو متوقع، وإذا ما نال اليأس من كلا الجانبين وتعمق الانسداد الدبلوماسي وتصاعد خطر اتساع رقعة الصراع فإن مواطن ضعف الناتو وهشاشته التي جرى تجاهلها طويلاً سوف تصبح أوضح للعيان وأشد خطورة على أولئك القابعين وراء سواتره. عندئذ قد تنكشف خدعة ما بعد الحقبة السوفييتية وتظهر على حقيقتها في نهاية المطاف. 
من غير الواقعي في منظمة واسعة كالناتو أن ننتظر إجماعاً سياسياً محكم الترابط، ولكن حقيقة أن رأي أي عضو في التحالف له وزن لا يقل عن رأي سواه برغم التفاوت الشاسع في القدرات العسكرية بين عضو وآخر، لابد أن تشكل عائقاً بوجه اتخاذ قرارات سريعة وجريئة. فأي استفزاز نووي أو كيمياوي روسي مثلاً قد يؤدي إلى انطلاق عاصفة من الأصوات المتنافرة داخل الناتو تتسبب في شلّه، ومن المؤكد أن بوتين يعلم هذا.
في الوقت نفسه هناك اعتماد شديد على الولايات المتحدة باعتبارها القوة العسكرية العظمى التي لا يمكن أن يحدث شيء إلا بعد أخذ موافقتها والتي يستطيع المتوانون الاحتماء بقوتها مع التفلت من دفع الثمن.
كذلك يعاني حلف الناتو كثرة التشتت في أرجاء العالم من الناحيتين  التنظيمية والعسكرية، فهو يمتلك ثلاثة مقرات للقيادة المشتركة: في إيطاليا وهولندا والولايات المتحدة، وأرفع جنرال فيه يستقر في بلجيكا ويتخذها مقراً له. أضف إلى ذلك أن إمكانيات التشغيل الموحد لأنظمة الأسلحة بين الدول المختلفة غائبة وكذلك تمارين التدريب المشترك وتوفير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية.
ثم إن انتشار الناتو يمضي بالتوسع تصاعدياً إلى حدود الشدّ المجهد نظراً لوقوعه بين التهديد الروسي في المنطقة الأوروبية الأطلسية من جهة والتحديات في  المحيطين الهندي والهادئ المنبعثة من الصين ونزعتها التوسعية النشطة.
من المتوقع أن يحضر زعماء اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا إلى مدريد أيضاً مساقين بكابوس مشترك بينهم هو: إمكانية تشكّل محور صيني روسي شمولي عالمي "لا يعترف بحدّ" تتجاوب فيه أصداء من المعاهدة النازية السوفياتية في العام 1939.
من المقرر أيضاً أن يصدر الناتو في وقت قريب "مفهومه الستراتيجي"، وهي وثيقة يعيد إصدارها كل 10 سنوات. هذا الإصدار سوف يسلط الاهتمام على جميع تلك المسائل بالإضافة إلى الإرهاب العابر للدول والتغير المناخي المزعزع للاستقرار والحرب السبرانية ونشوء دول معارضة للديمقراطية. إنها لمهمة صعبة بالفعل.
الشيء الآخر الذي تأخرت عن نشره أيضاً إدارة بايدن هو "ستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي" التي ينصب تركيزها على آسيا والتي استحقت إعادة التعيير والضبط على وجه السرعة عقب الغزو الأوكراني.
برغم هذا ينبغي على الناتو، إذا كان عازماً بالفعل على التحرك الفعال إلى الأمام على هذه الجبهات المتعددة جميعاً، أن ينظر إلى الوراء أيضاً .. أن يعترف بأخطاء الماضي ويقر ببعض المسؤولية عن الأزمة الراهنة.
لقد ألقى الناتو الكرة من يده بعد الانهيار السوفييتي في 1991، كان الأمر أشبه بما يفعله مشجعو فريق كرة القدم حين ينزلون إلى الملعب قبل انطلاق صافرة النهاية، اعتقدوا أن كل شيء قد انتهى! ولكنه لم ينته.
ما يفعله بوتين الآن هو ضعضعة الدرع ووضع الغرب أمام امتحان .. وما لم يغير الغرب نهجه الجانح للابتعاد عن المجازفة فإنه عما قريب قد لا يجد لنفسه مخبأ يعصمه. فهل سيخفق الناتو مرة أخرى؟.   
  
عن صحيفة الغارديان