أحمد عبد الحسين
ليس في تاريخنا السياسيّ حوار حقيقيّ. نحن لا نحسن التحاور والتفاوض اللذين هما جوهر السياسة. ففي لحظات مشهودة اضطرت السلطات إلى محاورة خصومها، لكنْ في كلّ مرّة يتضح أن الحوار كان لكسب الوقت واكتشاف أفضل زاوية وتوقيت للانقضاض على العدوّ. هكذا حاورت الحكومة الكرد ثم فتكتْ بهم في مواطن عدّة، ثم حاورت الشيوعيين وشكّلتْ جبهة معهم سرعان ما انهدمتْ وامتلأت بهم السجون والمقابر.
بعد التغيير لم تتغير العقليّة السياسية كثيراً فلم تتبدّل الثوابت. لا حوار إلا الحوار الذي هو وعدمه سواء. نتذكر كيف كان الاقتتال الأهلي مستعراً بينما فنادق بغداد ملأى بندوات المصالحة التي يتجمع فيها سنة وشيعة ليتحدثوا ويأكلوا ويصلّوا معاً، وليقضوا أوقاتاً سعيدة بكلامٍ رميم وهذر طويل وعواطف شعبوية صُرفتْ عليها ملايين الدولارات. وكلما اشتدّ الحوار استعر القتال أكثر فأكثر.
السياسيون لا يتحاورون. لا يعرفون من أين يبدأون لأنهم يجلسون إلى الطاولة وفي أذهانهم أنهم لا يريدون الخسارة، وأن التنازل انتقاص من شخوصهم، مع أن كل حوار ـ حتى داخل العائلة الواحدة ـ يستلزم خسارة شخصية لحساب ربح عموميّ.
بعد كل انتخابات يتنادون للحوار، وتكثر الزيارات ويرى الجمهور إلى بيوت الساسة العامرة التي تُعقد فيها الاجتماعات، نلمس الأبهة التي هم فيها وندرس ذوقهم في اختيار الأثاث، نوع السيراميك ولون الستائر، ونتحمّل سماع الكلام الذي سمعناه مراراً وتكراراً من أجل أن يسفر الحوار عن شيء يعادل ثمن ولائمهم على الأقلّ. ولا شيء.
ما يسمونه انسداداً سياسياً هو أثر من آثار هذه الثقافة التي تزدري الحوار وتحتقره وتكرهه لأنه سبب لخسارة صغرى لهذه الذوات صمديّة لا تريد أن تختبر الخسران للصالح العامّ. ومن لا يريد أن يخسر لن يربح.
جرّبنا الحوار بين المكوّنات وحصدنا الريح، وها نحن نجرّب الحوار بين أطراف المكوّن الواحد، والنتائج ذات النتائج: لغو كثير وهوّة تتسع ومخاوف من أن تنتقل الأزمة من طاولة الحوار إلى الشارع.
لكنّ التعميم تعمية، وعلينا أن نستثني هنا الحوارات التي كانت تتعلّق بتقسيم المناصب وإدارة المال وصرفه وتبيان الحصص، ففي هذه الموارد كان الحوار مثمراً ويجري بسلاسة وتلقائية كبيرتين.
في حوارات كهذه يكون المرحوم فولتير حاضراً معهم في زاوية من زوايا القاعة وهو يتمتم: "حين يكون الحديث عن المال فإن الجميع أبناء ديانة واحدة".