مفهوم الميتا أو (الما بعد) في الفلسفة

آراء 2022/06/22
...

 علي المرهج
ارتبط مفهوم الميتا، بالاشتغال بالماورائيات، أو بما يتجاوز الطبيعي والتفكر والتأمل العلقلاني في ما هو خارجه، فالميتا لاحقة فسرها العرب بأنها تعني الما بعد أو الما وراء، أي ما خفي في الطبيعي للولوج لجوهره، وتجاوز الظاهر وما يبدو لنا فيه، ومحاولة الكشف عن كنهه وأسرار وجوده، لذلك اهتم فلاسفة اليونان وعلى وجه الخصوص أرسطو بمبحث (الميتافيزيقا)، وهو مبحث يهتم أصحابه بدراسة الطبيعة، لا بما هي ظاهرة، بل بما هو كشف عن أصل وجودها، لذلك عرّف الفلاسفة الكلاسيكيون (الميتافيزيقا) بأنها (علم العلل) أو (العلم بالمبادئ الأولى للوجود).
 
كل ما يدخل في مجال الاستدلال عن الأصل والبحث في جوهره، إنما هو بحث في الما بعد أو (الميتا)، وكل بحث سعى فيه الفلاسفة للكشف عن جوهر وجوده الطبيعي، إنما هو بحث غايته الكشف عن الأسباب الأولى لوجود أي ظاهرة طبيعية، وقد تتعدد أسباب وجودها، ولكن مهمة (الميتا) هي البحث عن أصلها العقلي أو أصلها السببي، وقل عن مُسبب الأسباب بتعبير الفلاسفة المسلمين.
فالوجود موجود ولا يُمكن أن يكون غير موجود بتعبير بارمنيدس، ولكن الأصل في (الميتا) أو الما بعد هو الكشف عن هذا الأصل للوجود، هل هو مادي أم روحاني؟، أو هل هو واحد أم متعدد؟ وتستمر الأسئلة، وإن كانت هناك علَّة للكون فما هي صفاتها؟ ليتداخل علم (الميتا) مع (الانطولوجيا) علم الوجود، و(الكوسمولوجيا) علم الكون.
قسّم الفلاسفة إلى نظرية وعملية، إذ يعتقد الفلاسفة التأمليون بشرفية البحث في مسائل (الميتا) أي الفلسفة النظرية، وكل ما عدّها في الفلسفة العملية أقل مرتبة في الشرفية منها، لأن النظر العقلي تأمل في عوالم الوجود وكشف عن علله، والفلسفة العملية هي انشغال بالموجود لا في الوجود، لذلك هي أقل مرتبة من علوم (الميتا) النظرية.
الموجود مفهوم نسبي يعتريه التغير كل لحظة، ولكن البحث في الوجود هو بحث في المطلق، لأنه بحث يرتبط وتعالق مع مفاهيم مثل (الروح) و (النفس) واثبات وجود العلّة لا أولى للوجود، وهل الخلق وفق زمن ما كانت العلّة الأولى في الوجود فاعلة فيه دومًا، وهو الزمن السرمدي، أم أن الزمن توقيت تختاره العلّة الأولى، ولها مطلق الحرية في أن تفعل أو لا تفعل، أو تخلق ولا تخلق؟.
مفهوم (الميتا) مفهوم يهيم به الفلاسفة والمفكرون التأمليون، ليخلقوا لنا عوالم جديدة خارج أفق وجودنا الطبيعي والواقعي.
قد تكون عوالم افلاطون من عوالم الحقيقي الذي يتصوره عقل (ميتافيزقي) مثله، يحاول خرق نظام الوجود الطبيعي في الربط بين ما هو مثالي وحقيقي، ليكشف لنا عن عالم حقيقي، قد لا يكون واقعيًا، ونتصور أنه مثالي، ولكنه عالم يرى فيه الفلاسفة العقلانيون الحقيقة خارج وبالضد من خيالاتها التي عشنا زمنًا نعتقد أنها من عوالم الحقيقة، ولكنها من زيف ما عشناه من خداع، تصورنا فيه أن كل ما هو واقعي فهو حقيقي، ولكن الأصح أن كل ما هو حقيقي، إنما هو من عوالم مثال الخير الذي يسعى ويجد ويجتهد فلاسفة الحقيقة للوصول إليه.
قد ينتقد بعض الفلاسفة التجريبيين أو الحسيين الميتافيزيقا، لأنها ترنو للبحث عن (العلّة الأولى) للوجود، وهي كذلك، لأن غاية فلاسفتها الغوص في في الموجود للكشف عن حقائق الوجود الظاهر لنا، لذلك نجد (الميتا) تهر لنا شئنا أم أبينا، فهي تظهر لنا في كل شكل نُثيره حول معنى الوجود، ومعنى الخير والشر، وأسبقية الوجود على الماهية، أو العكس، أي أسبقية الماهية على الوجود.
تبقى الميتا تُحيط بنا وتحضر ولن نستطيع التخلي عنها من قبل ومن بعد، لأنها فلسفة تحضر ولا تغيب في ذات الفرد العادي والفيلسوف والعلم وأسئلته عن معنى الوجود، وفي تصورهم لكسمولوجيا وسايكولجيا وجود العلم ووجودنا، بل ولاهوت سؤال الأديان السماوية والوضعية.
لا أخوض في تصورات باشلار وكارل بوبر حول أهمية (الميتا) في استفزاز العقل العلمي والأدبي في الكشف عن أهمية الخيال وما تُضيفه عوالم (الميتا)، ليجعلا من عالمنا الموجود عالم نتمثله بتعبير (شوبنهور).
جعل باشلار من من (الخيال) ببعده التصوري (النظري) (الميتي) فلسفة للسعادة. أما كارل بوبر ففي كتابه (عقم المذهب التاريخي) دافع عن أهمية الخيال العلمي الذي تمنحنا إياه (الميتافزيقا)، ليؤكد لنا في نقده للوضعية المنطقية التي يعتقد فلاسفتها (أن الميتافيزيقا محض هراء)، أن (الميتافيزيقا ضرورية للعمل)، و(أن كل المشكلات الميتافيزقية حقيقية، وهي دومًا ذات جذور علمية اجتماعية ودينية).