من عيون التراث

الصفحة الاخيرة 2022/06/24
...

جواد علي كسار
ترتبط باسم الطرطوشي محمد بن الوليد (451 -  520هـ) واحدة من أهمّ مدوّنات الفكر السياسي عند المسلمين؛ كتابه الموسوم: «سراج الملوك».
كتاب: «سراج الملوك» هو مزيج مركّب من خمسة حقول، انتظمت مصنّفات السياسة في تأريخ المسلمين، هي: الفكر السياسي، الفلسفة السياسية، الفقه السياسي، أجهزة الدولة والإدارة، وأخيراً الآداب.
تعود علاقتي بالطرطوشي إلى أكثر من ثلاثة عقود مضت، عندما سمعتُ ملاحظة للباحث والأكاديمي العراقي علي حسين الجابري، بأن العالم العمراني المتميّز عبد الرحمن بن خلدون (732ـ 808هـ) ربما يكون قد اقتبس عن الطرطوشي، أساسيات مهمّة في منظومته الفكرية عن الدولة والعمران، من دون أن يشير إلى ذلك، إذ دفعتني هذه الفرضية أن أمكث طويلاً مع تراث الطرطوشي في «سراج الملوك»، بحثاً ومقارنةً مع ابن خلدون.
الحقيقة أن الطرطوشي نفسه يكشف عن الجهد الذي بذله في كتابه، عبر استقصاء ما وصله عن سير الأمم السابقة، وما جاء فيها من مناهج في تدبير الدول، فانتهى إلى أن أصحاب الحكمة السياسية هم ستّ من الأمم؛ العرب والفرس والروم والهند والسند (وهم من الهند أيضاً) والصينيين، فتحدّث عن حكمة الأمم الخمس الأوائل، دون الصينيين لأنه لم يبلغه عنهم شيء، لبُعد الشقة وطول المسافة كما يكتب.
من بين مواد الكتاب الموزّعة بين أربع وستين باباً، نبقى مع نصوص للطرطوشي لها صلة بدوام السلطة وزوالها، منها جواب بزركمهر عن سبب زوال ملك الساسانيين، بقوله: لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال. وسُئل ملك عن سبب زوال سلطانه، فأجاب: ثقتي بدولتي، واستبدادي بمعرفتي، وإغفالي استشارتي، وإعجابي بشدّتي. كما نقل عن الفقيه الأوزاعي، قوله: يهلك السلطان بالإعجاب والاحتجاب، فالاحتجاب أدخل الخلال (الصفات) في هدم السلطان وأسرعها خراباً للدول، فإذا احتجب السلطان، فكأنه قد مات.
أخيراً يذكر الطرطوشي أن قيصر الروم كتب إلى كسرى أنوشيروان، يسأله عن دوام ملكه، فكتب إليه: دام الملك لنا بستّ خصال: ما هزلنا في أمر ولا نهي، وما كذبنا في وعد ولا وعيد، وما قابلنا إلا على قدر الذنب، واستخدمنا ذوي العقول، وولينا ذوي الأصول، وفضلنا على الشباب الكهول.
بصرف النظر عمّا في النص من مبالغة يكذّبها الواقع التأريخي لتجربة الحكم، إلا أن المقصود هو التأمل بتراث ممتد وصل إلينا عن الماضين، ربما يبلغ مئة مدوّنة من مصنّفات السياسة.