{القرود الثلاثة».. حينما تكون الكاميرا بطلاً حقيقياً

الصفحة الاخيرة 2019/03/26
...

محمد علوان جب
منذ مشهد السيارة، التي تخترق الكادر المظلم حيث السائق المتعب، وهي تخترق طريقا زراعيا يكبر ثم يتضاءل، الى الحد الذي لم نعد نرى في كل الكادر، سوى الضوء الخلفي للسيارة لينطفئ، فنسمع صوت ارتطام، نفهم  منه ان هناك حادثة دهس قام بها الشخص، الذي كان يقود السيارة وهو (ثروت) ومرورا بالاحداث التي تأسرنا فيها الصورة،  اذ يقنع (ثروت) ،وهو سياسي متنفذ ومرشح للانتخابات، سائقه ايوب (يافوز بينغول)  بالاعتراف بالجريمة بدلا منه، مقابل تسليم عائلته راتبه الشهري ومكافأة مالية كبيرة تنتظره بعد خروجه من السجن، يودع السائق زوجته، تؤدي دورها باقتدار (هاتيس اصلان)، لننشغل في حياة زوجته وابنها، ما بين الزيارات المتقطعة للسجن، والمشاكل التي يعانيها الابن وفشله في الدراسة، حتى اللحظة التي يقنع بها أمه بالذهاب الى  ثروت (اركان كيسال)،   لطلب جزء من المبلغ لشراء سيارة، ومابين رفض الام وقبولها نكون نحن بمواجهة اللقاء الاول بين ثروت وهاجر، حينما تسمح احاسيس الحرمان في تأجيج علاقة حب تنتهي بهما الى الفراش، ويكتشف ابنها (احمد رفعت سنغار) تلك العلاقة بعد عودته  مبكرا، ليجد باب غرفة أمه موصدا وهناك أصوات، فيخرج مراقبا الطريق ليرى ثروت يخرج بخوف وارتباك واضحين،  ومن هذه العقدة، التي كان سببها رضوخ الاب لرغبة السياسي في تحمل جريمة لم يرتكبها ، منذ هذه اللحظة تبدأ مسألة الصراع الكبيرة في الانفعالات المتأججة، التي يشترك الجميع في كبتها، مساهمين في اكمال المؤامرة التي بدأها الاب، عنوان الفيلم مبني على لوحة القرود الثلاثة التي جسدت المثل الصيني المشهور عن “المواطن الصالح” (لا ارى،  لا اسمع ،  لا اتكلم)  في اشارة الى الاشياء التي حجبت وسكت عنها،  موضوعة الفيلم تقوم على فكرة المؤامرة والتواطؤ العائلي للخروج من الفضيحة، تلك الاسرار العائلية التي تثار من الاب السائق والزوجة الشبقة والفتى المراهق بما فيهم السياسي ثروت ،الكل تجمعهم اللامبالاة،  ولكن تبقى الكاميرا، هي البطل الحقيقي التي تحرك الاحداث من خلال زوايا التصوير، عبر الزمان الذي هو خريف إسطنبول التي تعيش ازدواجية في انتمائها بين الشرق والغرب، كانت الكاميرا تتغلغل عميقا في الخريف، الذي يحاصر المدينة وتلاحقه دونما تأثيرات،  اذ نكاد نرى فيلما صامتا،  وكان بالإمكان الاستغناء عن الحوارات والاكتفاء بالصور البصرية المذهلة، التي نجح المخرج في ايصال كل الرسائل البصرية، من دون الاتكاء على الحوارات التي جاءت اصلا مقتضبة وبسيطة، وكان الصمت مؤثثا بالعتمة تارة والضوء تارة أخرى،  فعبر  بإيقاعات رتيبة لأصوات احتكاك عجلات القطارات على السكك الحديدية التي تقترن بالانفعالات والانتقالات السريعة المقنعة .... وتتصاعد الذروة الدرامية بعد خروج الاب من السجن ، ليتفاجأ بالسيارة التي يقودها ولده ، ومن خلال عملية استجوابات وايماءات يكتشف الزوج المدى الذي وصلت اليه علاقة زوجته بالسياسي الذي فشل في الانتخابات ، يشم رائحة الخيانة وينفعل ويثور لكنه يصطدم بالمحنة التي كان سببا رئيسيا فيها ، وحينما تتصاعد ذروة الانفعالات بين الزوج والزوجة، والام وابنها  والسائق والسياسي وبين الزوجة وعشيقها،  نكتشف انها تذهب اليه متذللة وتصرخ له انها تحبه ولا تستطيع الاستغناء عنه ـ وهذه هي الهنة البسيطة في السيناريو المحكم الذي شارك في كتابته اركان كيسال،   فهل اراد السيناريست ان يؤكد لنا انها احبت عشيقها بصدق ولم يكن ما يربطها به نتيجة الحرمان والوحدة ، اوليؤكد ان زوجها لم يكن يعاملها بانسانية كما يعاملها فيها عشيقها 
 ــ ثم يقتل (ثروت) بظروف غامضة ، فهمناها حينما يستدعى (ايوب) وزوجته الى مخفر الشرطة حيث تخبره الشرطة ان هناك رسائل هاتفيه من زوجته وجدت في هاتف الضحية ، حينها يصاب الزوج بانهيار كامل وتبدأ عملية تأنيب ضمير هائلة تسيطر عليه من خلال تلك الصور المتخيلة التي نراها واضحة في عملية استدعاء الماضي حيث ابنه الميت غرقا يعانق الاب ، يبدو كأنها عملية تأنيب ضمير يعيشها الاب بعد ان عاشها ابنه من قبل ، كأنهما يشتركان في عملية قتل الابن أو هو وزر ثقيل يحملانه .. ويزيد الامر تعقيدا هو اعتراف الابن لامه انه من قتل ( ثروت ) حينها تحس الام بفداحة الامر ، وحينما تحاول الانتحار بالقاء نفسها من اعلى البناية يشجعها زوجها على ذلك ثم يهيم في الشوارع وحيدا فيلوذ في ذلك الفجر بالجامع بعد ان جذبه صوت الآذان ، ذلك الصوت المقدس المتعالي على تلك الهموم الصغيرة ، فيعمل على انقاذ ولده فيختارعامل المقهى محاولا اقناعه بالاعتراف بالقتل وتحمل السجن بدلا من ولده مقابل مبلغ من المال،  ومن على سطح البناية يقف متخشبا وهو يراقب مرور البواخر والقطارات والمطر والرعد الذي يشق السماء قاطعا الصمت وفي منظر مذهل تحت سماء ملبدة بالغيوم الرمادية والقطارات، كأنها تجسيد للنهاية المفتوحة، اذ ينتهي الفيلم تاركا للمشاهد بناء تصوراته في انتحار الزوجة او في انقاذ الابن من 
السجن.
    يعد “القرود الثلاثة “من اهم الافلام التركية، وهو السادس في قائمة أعمال المخرج التي بدأت بفيلم “ الشرنقة “ و “المدينة الصغيرة” و “غيوم أيار” وبعيدا عن”مناخات”، حصل “القرود الثلاثة” على جائزة أحسن فيلم في كان.