معادلة مقلوبة

الصفحة الاخيرة 2022/06/30
...

حسن العاني
 
ابتداءً لا بدَّ من الإشارة إلى أن (الكرم) واحدُ من أنبل الصفات الإنسانية، إن لم يكن الصفة الأعظم، وليس من مبتدع القول أو المبالغة الكلامية أن يحتل الكرم منزلة يستحقها في عموم أدبياتنا الدينية، عندما يعد (الكريم قريباً من الجنة)، وهذا القرب شهادة عظيمة لا تعادلها في المرتبة إلا تتمة العبارة 
( بعيد عن النار)، ولا بدَّ أن (القرب من الجنة والبعد عن النار) فيهما من الدلالات السامية– أخلاقياً وإنسانياً ودينياً – الشيء الكثير.
وبعيداً عن مفردة الكرم واشتقاقاتها من التكريم إلى المكرمة، وبعيداً عن التفاصيل القاموسية، وعن المعاني والأمثلة والاستعارات البلاغية كقولنا (الشهر الكريم) كناية عن شهر رمضان، فلا بدَّ من التنويه إلى أن الكرم صفة (فردية)، بمعنى لا يستقيم الكلام عن (شعب كريم) بأكمله، أو (شعب بخيل) بأكمله، ومعلوم بأن مفردة الكريم حيثما وردت أو جاء ذكرها، فهي دالة ثناء ومديح، سواء بالنسبة لأسرة الكريم وقبيلته، أم بالنسبة لشعبه، ومن هنا فأن (حاتم الطائي)، على سبيل المثال– بعد إبعاد سيرته الذاتية عن المبالغات والحكايات المفبركة، التي ابتدعتها المخيلة الشعبية– كان مدعاة اعتزاز ومباهاة لأسرته وقبيلته، مثلما بات مضرباً مثل طيّباً
للعرب.
وقريباً من لغتنا العصرية فقد استوقفني أمر غريب لم استطع فهمه، ولم اتوصل إلى تفسير مقبول لمعانيه الخفية مع أنه من أبسط الأمور وأيسرها وأكثرها تداولاً، حيث لم يحصل – ولو لمرة واحدة – منذ عقود عديدة أن سمعت ملكاً أو زعيماً أو رئيساً أو وزيراً أو مسؤولاً كبيراً يخاطب المواطن العراقي أو المواطنين العراقيين، إلا وكانت صفة الكرم حاضرة على لسانه (المواطن الكريم – المواطنون الكرام)، علماً بأن (89.478 %) من مواطنينا الكرام، لا يمتلكون رغيف خبز فائضاً عن حاجتهم ليتكرموا به.. ولم يحصل – ولو لمرة واحدة – منذ أكثر من ستة عقود أن سمعنا مواطناً عراقياً يخاطب المسؤول بمفردة (الكريم)، لأن قاموس خطابه مع المسؤولين يضم هذه المفردات (أستاذ– سيادة– جناب– فخامة–معاني– سمو– السيد) وأمثالها.. ولهذا كان الأجدر أن تطلق مفردة (الكريم – أو الكرام) على المسؤولين، لأنهم وحدهم من يمتلك (قدرة التكريم) ومؤهلاته وأسبابه.. فهل يا ترى هي (معادلة مقلوبة) مثلاً؟ أم أن المواطنين هم (كرام) حقاً لأنهم تكرموا براحتهم وارتضوا بجوعهم وحاجتهم وفقرهم، لتوفير السعادة لسعادته وفخامته ومعاليه وسيادته ؟!