د.عبد الواحد مشعل
بدأت المعرفة الإنسانية تتكون تدريجياً، عندما انتقل الإنسان من المرحلة البشرية إلى المرحلة الإنسانية، وهي مرحلة حاسمة، اتسمت بتنامي وعيه الاجتماعي، وقدرته على التميز بين الأشياء المختلفة، ما وضع الإنسان في مرحلة جديدة من التعامل مع ما يحيط به من ظروف مختلفة، وهذا التطور استغرق فترة طويلة من الزمن، وفي هذا السياق اهتم بعض علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، بتقسيم تطور التفكير الإنساني إلى مراحل ثلاث، فعالم الاجتماع أوكست كونت، وضع قانون تطور الفكر الإنساني بمراحله الثلاث من المرحلة اللاهوتية أو الدينية إلى المرحلة العقلية إلى المرحلة العلمية (القائمة على التجربة)، كذلك ميز عالم الانثروبولوجيا جيمس فريزر، ثلاث مراحل أساسية مرَّ بها العقل الإنساني، وهي السحر والدين والعلم، ففي المرحلة الأولى اتسم التفكير بالبدائية، وكان لا يتعدى كونه خاضعا للطبيعة، التي تشكل له مصدر خوف وقلق، حتى استعان ببعض المعتقدات والطقوس الدينية، والسحرية، وتقديم القرابين لها، درءاً لشرورها ، ثم انتقل التفكير الإنساني إلى مرحلة العقلية أو مرحلة إثارة التساؤلات الملحة حول ما يدور حوله من ظواهر طبيعية مختلفة، إذ كان الفيلسوف اليوناني طاليس أول من بدأ بالتساؤل عن الكون وعناصره الأساسية، بعدّها مرجعا للأشياء التي يتساءل عنها الإنسان، وبهذا المعنى أخذ العقل البشري ينتج تصورات تجريده تفسر واقع الإنسان في سبيل الحصول على إجابات وافية، عما يجول في خاطره من أفكار وتساؤلات، ساعيا إلى التخلص من حالة الضعف والفساد والظلم وغياب العدالة في مجتمعه، وبهذا جاءت فلسفة أفلاطون لتؤسس جمهوريته المثالية، التي وجدت صدها المثالي التجريدي في العقل الإنساني، إلا أنه من غير الممكن تحقيقها على ارض الواقع، وبهذا فأساس العلاقة بين الفلسفة والعلم قائم على قدرة الفلسفة، على بناء تصورات تساعد العلم على بناء تصوره النظري القادر على إثارة جملة من التساؤلات حول ظاهرة من الظواهر، وعلى الرغم من تطور الفكر الفلسفي من المثالي إلى الواقع استغرق زمنا طويلا، إلا أن الحركة العلمية التي بدأت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أدت في ما بعد إلى ترجيح كفة العلم، ومرد ذلك إلى أن الفلسفة بعد ظهور النظرية التطورية لجارلس داروين، وما تلتها من إسهامات علمية قوضت الفلسفة، وفتحت المجال واسعا أمام التوجه العلمي بمناهجه وتقنياته البحثية الرصينة بجناحيه الطبيعي والإنساني، وفي هذا السياق لا بدَّ من التذكير بأن مثل هذا التطور يعود إلى مرحلة ابن خلدون، التي سبقت الجهود العلمية الغربية بقرون عدة، حينما هاجم الفلسفة، ودعا إلى العلم التجريبي، لأن الفلسفة –على حسب رأيه- لم تعد قادرة على علاج مشكلات الإنسان بتصوراتها المثالية الأخلاقية، وإنما يتطلب الأمر نزولا إلى قاع المجتمع، وتشخيص مشكلات الإنسان المتفاقمة، ففي الوقت الذي يكون فيه إنتاج الفلسفة من إنتاج الفيلسوف نفسه، والتي تعرف باسمه، مثل فلسفة أفلاطون أو أرسطو، فان العلم يكون تراكمياً نتاجاً عن جهود علمية وقوانين مقننة، لذا يعد القرن التاسع عشر عصر التخصصات العلمية، التي ظهرت أولا في العلوم الطبيعية ثم الإنسانية والاجتماعية، بعدما انسلخت تلك العلوم من الفلسفة بحكم تفاقم مشكلات الإنسان، فالعلم يبدأ بنقطة محورية تقوم على توفر شرطين أساسين، أولها ما يطلق عليه (قلب العلم) المتكون من النظرية والمنهج، أما المحور الثاني (أطراف العلم) أو ما يطلق عليه (الفروع التطبيقية) للعلم، وعليه فالبحث العلمي لا ينسب لفرد معين،إنما هو جهود علمية متراكمة بشروطه الموضوعية والميدانية.