العارفون بكلّ شيء

العراق 2022/07/02
...

أحمد عبد الحسين
 
مُحللو الفضائيات في مأزق دائم، يُستدعَون إلى الأستوديو ليكونوا على الشاشة أمام الملايين لسبب وحيد مفترَض، هو أنهم يعرفون عمّ يتكلمون. ولذا فإنهم يسعون جهدهم لإثبات أنهم يعلمون حقاً، هذه وظيفتهم التي صنعتْ أسماءهم، وليس وارداً أن يقول محلل سياسيّ أمام الناس أنه لا يدري. حينها، ركن من أركان وظيفته سينهدم، لأنّ الذين أتوا به إلى الأستوديو إنما أتوا به لأنه يدري.
كتب نيتشه شيئاً عن المتلعثم، كيف أنّ الناس لا تثق بحديثه، غير عارفين أن جزءاً وافراً من الحقيقة لا يمكن التعبير عنه إلا باللعثمة، لكنّ التلفزيون يتطلّب أناساً لا يتلعثمون، شاشة التلفزيون لها أبطال يمتلكون نفوذ القول الجازم الوثوقيّ، وكلما استرسل المحلّل في التدفّق من دون إبطاء ولا التقاط نفس كثرتْ فرص ظهوره وأحبّته الشاشة والجمهور.
لكنّ هذا مأزق. يضطرّ أحياناً كثيرة ليتمسّك بالاسترسال وسلاسة الكلام وهو يحكي عن مواضيع لا يعرفها حقاً، عليه أن يحافظ على سيماء مَنْ يعرف وهو يتكلم عمّا لا يعرف. وتبدأ التراجيديا الكوميدية!
أشاهد محللي الفضائيات بالصدفة، لكني كلما رأيتُ أحدهم انتظرتُ هذه اللحظة التي ينتقل فيها من موضوع يعرفه حقّ المعرفة إلى آخر لا خبرة له فيه، وتمنيتُ لو ينقذ نفسه بقول لا أعرف. لكنْ هيهات. سيظل محافظاً على نبرة الوثوق متحدثاً هذه المرة عن أسرارٍ لا يعرفها إلا هو أو متنبئاً بأحداث ستقع أو رابطاً بين حدثين لا علاقة لهما ببعضهما أو كاشفاً عن تصريح لسياسيّ لم تنشره الوكالات أو ـ وهذا الشائع الآن ـ يتحول التحليل إلى مراهنة: سيحدث الأمر التالي في الأيام المقبلة ومستعدّ أنْ أراهنكم.
لا أحد بمقدوره أن يراهن محللاً على الشاشة فهذا مستحيل، ثمّ أن اللقاء سينتهي ويُنسى بانتظار لقاء آخر ورهان آخر، لكنّه نجا من المأزق بالمحافظة على تدفّق كلماته فلم يتلعثم أو يتردّد أو يقول أنه لا يدري.
تخيّلْ معي لو أن محللي الفضائيات قالوا كلمة "لا أعرف" عند كلّ ما لا يعرفون. ما الذي سيبقى من وظيفتهم ونجوميتهم؟ 
مع كل محلل لا يعرف تخسر الشاشةُ الجزء الأكبر من قوّتها باعتبارها ملتقى لمن يعرفون موجّهاً لنا نحن الذين لا نعرف.