خضير الزيدي
رحلت عن عالمنا قبل أيام قليلة الفنانة يسرى العبادي تاركة خلفها عشرات الأعمال الفنيَّة منذ أن أقامت معرضها الأول إشراقات على دار أفق سنة 2002، والثاني على قاعة المنتدى الثقافي للمرأة 2003، وكانت معظم أعمالها تتغنّى بالمرأة في أوج بهائها وجمالها، وكأنّ الفنانة تخبرنا عن السعادة وعن الجانب النفسي المضيء عند المرأة، وهذا ما نلمسه من خلال طاقة اللون البراقة في رسوماتها، فمن يتابع منجزها يقتنع أنَّها مهمومة بقضايا الأمومة والطفولة، وتريد أن تبعث إشاراتها السيميائيَّة من خلال الرسم وفقا لحواسها أولاً ولرؤيتها الجماليَّة ثانياً.
هذه الفنانة لم تبتعد أبدا عن إحياء الفكر الإنساني في مشغلها فهي تصرّ على إظهار الجوانب المضيئة من النفس الإنسانيَّة وهي في أروع تجلياتها، إذ لم أجد لها عملاً فنيَّاً يحرّض على الحزن أو المرارة، وكلما توقفت أمام لوحاتها وجدت التشخيصيَّة في أدقّ التفاصيل، والفضاء اللوني المنبعث من أعماق النفس، وممّا نؤشره في أعمالها أيضا أنّها تنطلق من البساطة الآسرة، فلا وجود لفن معقّد، وكأنّها في لحظة الرسم تشاكس الأطفال لترسم مثلهم، وتصرّ على تصوير حقائق الذات الإنسانيّة في عمق ووعي لنجد النساء في لوحاتها منغمسات في الاستمرار بالمرح والتطلع إلى الغد، فماذا يعني كل
ذلك؟
كل عمل فني يشير إلى قضيَّة معينة يراد لها الظهور والإشهار ويتمّ التركيز عادة على قضايا مهمة وصارخة تتعلق بحقوق الإنسان، وتقدّم العبادي منجزاً فنيّاً رائعاً في هذا التصوّر لأنَّها تسعى على وفق إرادتها لمطابقة الأنموذج التشبيهي الذي يجول في نفسها حيال المرأة، لهذا لا تخلو لوحاتها من معنى وأسئلة فهي تحتكم لعقليتها وعاطفتها معاً، وسرّ جمال لوحاتها التشخيصيَّة ارتباطها بقضيَّة معينة (الانتصار للمرأة) وإبراز الوجه المشرق لهذه
القضية.
لوحاتها لم تخرج من السياق التعبيري المباشر وكل تكوين مهما تعدّدت تداخلاته يُنبي على وفق عناصر شكليَّة وهيئات تبدو للمتلقي منتظمة ومماثلة لموضوعها النفسي والتعبيري، لم نجد في أعمالها ما يفصح عن إشارات لجسد المرأة في التعري مثلاً.. هناك دلالة وانتماء لجسد مسترخٍ يستأثر بموضوعيّة إنسانيّة متعارفة على الاحتفاء بالحياة والبيئة العراقيّة، مثلما نجد (النخلة) التي ترافق بعضاً من أعمالها كأنّ خطابها التأويلي يؤكد على شموخ المرأة وعلو شأنها، هذا الإنشاء النفسي ميز العبادي منذ بداياتها في الرسم وأفضت لوحاتها إلى أسلوب رصين مع أن من يرى أعمالها يتطلع إلى بساطة في التشخيص وطاقة براقة في اللون، لكن الحقيقة هناك جو وفضاء خالص نحو تعبيريّة تلتزم بمنهج منفصل يمثل الفنانة وطريقة تفكيرها جماليّاً ودلاليّاً.
في الغالب من فنها نشاهد مجموعة نساء منسجمان ومتوازنات في طابع من الاسترخاء النفسي وبالمقابل توجد عناصر مثالية لشجرة النخلة هذا الارتباط لم يقابله نقيض في المغامرة الشكليّة أو تفاوت في مصدر الإلهام، وتهدف هنا إلى نوع من الثبات في الشكل والمعنى وتزايد اهتمامها بأشكال تحتوي هذه الثنائية الدالة وهي ليست استعراضاً للإمكانيات الفنية بقدر أنّها رسالة تعتمد على الفراسة والدعوة لبروز قواعد الاهتمام بالمرأة والتفكير في براءتها ووجودها
الآدمي.
اتخاذ النخلة كسياق صوري يرافق عملها التشخيصي يصنّف على أنّه عودة إلى الاعتزاز بالموروث والبيئة المحليَّة التي ترى في علو النخلة شموخاً وانتصاراً وتواضعاً، وهذا البيان الصوري التشبيهي يوجه الأنظار إلى ما ترسمه العبادي والتحسس به كخيار شخصي تحتفظ به الذاكرة والوجدان معا، وهي في هذا الجانب المضيء تحول المرئي إلى مركز للواقعيَّة والحيويَّة بعيداً عن الترف والبهرجة قريبة من منظومة متعاضدة سواء في الأشكال والتلوينات أم في صلة الرسم بالمحيط الاجتماعي وما تختزنه الذاكرة الشعبيَّة، نجد ذلك في طابع الاحتفاء بالطفولة والمرح عند النساء.
هذا التصور جاء استجابة لنداء داخلي يعتمر في النفس التواقة للفرح والبهجة وهو رغبة في رفض ومجابهة ما تعانيه الأنثى من ويلات وحصار داخلي.. إذن تفتح يسرى العبادي مواضيع لها علاقة ثنائيَّة بين الرجل والمرأة وتوجه فكرتها باتجاه عقل نير لا تريده منغلقاً، إنما يبعث على التفسير الدقيق والمتماسك لأسباب وجودنا فوق هذه
الأرض.