أحمد عبد الحسين
أمس، كان جزء من البرلمان الليبي في طبرق تأكله النيران، والجزء الآخر تهدمه "الشفلات"، حين كتب رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة تغريدته التالية "أضم صوتي للمتظاهرين في عموم البلاد، على جميع الأجسام الرحيل بما فيها الحكومة".
عبثاً كانت التعليقات تخبره أن التظاهرة والاعتصام ضدّه هو تحديداً، وأنه إذا كان هناك راحلون فأولوية العبور له لا لغيره. كل حوار مع رجل في غيبوبة هو حوار عابث.
فارق أساسيّ بين نهايات الطغاة الديكتاتوريين ونهايات الطغاة "الديموقراطيين"، أن الأوائل نهاياتهم فيها تراجيديا من نوع ما، فيها هذه الحسرة التي يطلقونها على نظام حكم أسسوه من العدم، وحسرة أخرى على العالم الذي سيكون مهجوراً من دونهم. تشاوشيسكو قبل أن يعلقه الثوار من رجليه ويقتلوه قال لهم: كل بنايات رومانيا أنا بانيها، أتحداكم بعد موتي أن تصبغوها. يعرف الديكتاتور ما يجري حوله لكن وهمه الشخصيّ يدعوه إلى صياغة مشهد مأساوي تاريخي ينهي به حياته.
غير أنّ نهايات طغاة الديموقراطية مضحكة، كوميدية وتكشف عن انفصالهم عن الواقع، لا يعرفون ما يجري من حولهم، ويعتقدون أنهم بكلمة منهم يستطيعون إصلاح الوضع. ذلك أنّ حياة الراحة والدعة والأموال التي استحصلوها بلا تعب والدائرة المغلقة المتنعّمة المحيطة بهم جعلتهم سذجاً بلا خيالٍ، بل أسوأ، جعلتهم يظنون الناس سذجاً أيضاً.
في تويتر كما في شوارع طبرق انقلب غضبُ شباب ليبيا إلى ضحك، ربما أكثر من ضحكهم على عبارة القذافي الأشهر "مَنْ أنتم؟" لأن القذافي قالها وهو يحاول إخفاء خوفه المفضوح. أما طاغية الديموقراطية فهو غير خائف فعلاً لا لأنه قويّ بل لأنه لا يدري حقاً ما يحدث.
الغيبوبة، حال الإنسان بين اليقظة والمنام، الحال التي تجعل الواقع شبحياً غائماً مضبباً هي حال المفصولين عن الواقع، بحيث يظنّ أنه قادر على إطفاء حرائق البرلمان بكلمة منه في تويتر.
من اشتغل مطوّلاً على الواقع وأسهم فيه سيفارق الحياة بأسى وغصّة. تشاوشيسكو تذكر بناياته التي لن يصبغها أحد، وتذكّر صدام أن العراقيين كانوا حفاة قبله، وكلاهما أخذ معه وهمه وعاره إلى حفرته. لكنّ مَنْ لم يقدّم شيئاً ولم يعش إلا واقعه الخاصّ، ملذاته وشؤون معدته وحسابه المصرفيّ، ستكون نهايته تهريجاً محضاً خالياً حتى من الأوهام.
يموت الديكتاتور بنشيد جنائزيّ لا يستحقه لكنه مؤثر. بينما يموت المهرّج مصحوباً بإيقاع أتفه الأغاني التي غُنّيتْ في عصره، ستسمع في طبرق أغنية "ندوش بالمالقي" وهي أغنية ليبية جديدة هابطة للغاية، بينما في أمكنة أخرى بعيدة من العالم قد نسمع "بسبس ميو بسبس ميو" .